الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

العدل البطيء أصعب من الظلم

المصدر: "النهار"
"كاسك يا وطن"...
"كاسك يا وطن"...
A+ A-
علي حمدان
 
ارفس!
كل الأمهات ثكالى هنا. 
خُدع الشهيد هنا. 
فُجع الموت بنا، هنا. 
المهانة قهوة هنا، 
حلم الأبناء وحلم الماء والهواء... حقائب سفر من هنا. 
الغبن قدرٌ هنا.
 
كنت في التاسعة عندما حدثني جدي عن أبيه الذي كان جلاداً "قبضاي" في زمن العصملي، وأخبرني أنه مازال يحتفظ بكرباجه مع مقتنياته الثمينة في قبو بيت "جدي الحاج" في ضيعتنا. كان عليَّ أن أدرك مذاك الحين أن البطش في بلادي إرثٌ ثمين، وأنَّ الإستزلام كارٌ، وما زال كذلك... هنا، فقد عبَّرَت إحدى الصديقات في جلسة خاصة قبل أيام عن عميق عدم احترامها لمديرها الذي عُيِّن بالواسطة في مؤسسة رسمية مؤخراً، فهبَّ إثنان من المتنعمين بخيرات الزعامة عليها منتقدين ما اسموه "ضيق صدرها" ومنظِّرين بأن العمل في الشأن العام يستوجب النظر إلى الأمور من "عين أكبر"، على حد تعبيرهم. لا. العمل في الشأن العام لا يستوجب النظر من عين أكبر، بالمعنى الآنف ذكره اقلُّه، بل يستلزم قبل أي شيء إخضاع هؤلاء وأمثالهم من أصحاب "الفجور الأكبر" للإقامة الجبرية أمام مرآة، لعلَّه بذلك يسترجع كل ضئيل حياؤه.
 
في أحد مشاهد مسرحيات "كاسك يا وطن" يعتلي مطرب "النضال والمعارك الطاحنة"، كما قدمته مذيعة العمل صباح جزائري المسرح لينشد للوطن، فيدندن مقطع "هل رأى الحب سكارى مثلنا" من أغنية الأطلال لأم كلثوم ساخراً، كان ذلك عام 1979، وما زلنا حتى يومنا هذا ندندن سكارى، نتوسط المقعد الخلفي للسيارة في تجوال طويل، نحادث رفاق الدرب في المقعدين الأماميين عن رأيهما في الأغنية على الراديو، وعن صديقة أحبّت فابتعدت، وظيفة خسرها أحدنا، أرداف بائعة القهوة البارزتين، ورداءة الإعلانات على جانبي الطريق وغيرها من توافه الأمور، دون أن نسأل عن الوِجهه أبداً، أو عن جدوى الرحلة أصلاً. نهذي ونسير كالعدل، ببطء شديد، والعدل البطيء أصعب من الظلم. نراكم الترقُّب وحسب. وهنا لب الفاجعة. 
 
الظلم كتاب الجاهل. ومن لم تصقله تجربة السلف، تسمو به جراحه. لقد قيل في المسرح أنه مرآة الشعوب، وتشهد مسارحنا منذ "كاسك يا وطن" أنَّا كنا ولاة وعي نظري على مر النكبات، وأنَّا، متى حانت ساعة العمل، سكارى. فالمسرح، كما سائر الفنون، يهدف إلى إعادة تشكيل الوعي والحث الغير مباشر على إعادة تقييم ما يدورحولنا، فنخرج منه إما متمردين كنضال الأشقر يوم توجهت عام 1969 من مسرح البيكادلي إلى مقهى "هورس شو" في شارع الحمرا حيث استكملت بين روَّاده مسرحية "مجدلون" بعد أن حاول الأمن منعها لأسباب سياسية وقتذاك، أو نغادره كالمتصوَّفة، فنستعين على كيِّ الوعي بالتقيَّة، وبتر المقدس؛ ب"الذين امنوا" وحدها دون العمل، متممها المُنزَل، فالآية وعدت "الذين امنوا وعملوا الصالحات" حصراً بالفردوس، لا الذين امنوا دون عمل، أي أن الإقران بين الإيمان والعمل شريطة الظفر، طبقاً لما جاء في النص المقدس، وفي التجربة الإنسانية المديدة في آن. 
 
يمكنك أن تتجاهل السياسة حتماً، لكن السياسة لن تتجاهلك يوماً. لن تكتفي الحكومة برفع الضريبة هذا العام، سيليها إقتطاع إضافي من مدخولك المتضائل العام المقبل. لن تتوقف عند تقليص الإنفاق على البنى التحتية ورفع الدعم اليوم، فغداً تحَد الخدمات الصحية، وبعده ترسمَل التربوية، ثم تشتد الأمنية وهكذا دواليك. تعديل البطيخ جينياً ليصبح أصفراً، وتكريز - من كرز- الطماطم لن ينتهي هنا، ربما هو المقدمة فقط، وتهجينك أنت هو "إبتكار" البشرية القادم، فيجعلونك رافساً مثلاً! إنساناً رافساً! لست أبالغ في هذا. عليك أن تتوقع حدوث أي شيء! حسناً، قد لا تتحول إلى كائن رافس جراء العبث بك جينياً، لكن لا مفر من الرفس في نهاية المطاف. حين يبلغ استغلالك الزُّبى، عندئذ، ستجد نفسك، من فرط الهراء، أمام وسيلة أخيرة للحفاظ على ما تبقَّى من وجودك: السياسة. وما السياسة إلَّا فن الرفس والرفض، وبالحديث عن الرفس، دعني أصافحك مبارِكاً عزيزي القارئ، لقد رفسنا قدسية الإجماع سوياً للتو بآستبدال "السياسة فن الممكن" المعلوكة جداً ب"السياسة فن الرفس"! كل الشعوب اثبتت ذلك في وقت ما. ما علينا. يبقى خيار الإنخراط فيها أو عدمه خيارك أنت. وحدك. على أن يكون خياراً متاحاً أولاً! وأن تكون حريتك في الإنغماس به أو الإحجام عنه مصانة مطلقة، لا يلجمها خوف من فقدان ساعات التعاقد في التعليم الثانوي، أو تكبلها جرعة الشهر المقبل من علاج الليمفوما لوالدك، ولا يقلقها نفور صديق، أو لوم زبون، وإنفضاض عزيز... ولك تعداد البقية، فالتباين في أراء الناس يراه النفسانيون طبيعة بشرية تحكمها جيناتنا أولاً، والبيئة المحيطة بنا ثانياً، والرأي المخالف لإجماع بيئة الأمر الواقع يعرّض صاحبه للنبذ والتنمر والإبتزازالمعنوي وغيرها من العقوبات النفسية والإجتماعية والاقتصادية وحتى الجسدية، مما يدفعنا، نحن الحيوانات الإجتماعية، إلى العدول عن الفرادة في كل شيء بدءًا من زيَّنا، معايير تحديد العيب والغير مقبول بالنسبة إلينا، سلوكياتنا، وتفاصيل كثيرة لا تستثني أهم ما في تكويننا الآدمي؛ افكارنا، وهو أحد أهم أسباب عدم خروجنا كلبنانيين عن طاعة العرف... أعوذ بالله من سلطان العرف!
 
من نعم الله علينا في حقبة إعلام أبو نوَّاس - مدَّاح ثنائي طمس الوعي في كل زمان ومكان: الخليفة والخمر- السوشال ميديا. يكفي أن تتحلى بحد لا بأس به من انتقائية لتجد نفسك متصفحاً مسرور الخاطر بنخب "نُخب"، أمثال البير مخيبر، الثلاثيني الحائز على دكتوراه في علم الأعصاب الإدراكي من جامعة بيار وماري كوري الفرنسية، والمحاضر في جامعة باريس ٨، الذي تحدث لصفحة "جل الدايب توكس" الفيسبوكية عن خصوصية ما أسماه "الريبة من المجهول" التي تنتاب اللبناني كلما ساورته المحن، فيلوذ بزعيمه مجدَّداً، مجدِّداً البيعة والولاء له، فهو "المخلص" الأول منذ الإقتتال الأهلي الذي إندلع عام ١٩٧٥، ولمَّا يزل. تلجأ النفس البشرية عند الصعاب لمن "تظن" انه حماها وقت الصدمات والأزمات الوجودية، بحسب مخيبر، وهو ما دمغ تجربتنا وأدى إلى برمجة اللاوعي الجمعي اللبناني على التعلق المرَضي بالزعامة والثقة التامة بها في وجه "المجهول" منذ "المجهول" الأول؛ البوسطة، مروراً بكل "المجاهيل"، وأخرها "مجهول" ١٧ تشرين ال"أكبر مني ومنك"، ومجهول المرفأ وغيرها، فغاب الفكر النقدي تماماً، وتجذرت الأبوية النيو-إقطاعية، وولَجنا نفق "العجز المكتسب"، والتعبير لمخيبر، المتمثل بالقناعة القطيعية القطعية بأن التغيير محال، معبِّرين عنها ب"مانترا" " تتناسخها الألسن والأجيال: "ما هيدا لبنان!"، وهي عبارة تستبطن التسليم السلبي الكلي لمنتحلي صفة الأبوة بحماية الأبناء، لكن كيف لأب يبدَّد طاقات وأموال الأبناء على إمتاع الذات أن يستحق الطاعة!؟ تستحضرني هنا قصة الدبلوماسي الأميركي الذي زار فيكتور فرانكل، النفساني النمساوي الناجي من أوشفيتز، ساخطاً على حكومة بلاده وممتعضاً من وظيفته، فشرع فرانكل بتشريح تاريخ علاقته بأبيه أولاَ، معتبراً المصالحة مع الأب البيولوجي بوابة الوئام مع رموز الأبوية أينما تجلت لاحقاً في الحياة، من حكومة، ورب عمل، ومدرسة ورجل الأمن وغيرهم. قد تكون قصة فرانكل والدبلوماسي إياه مفتاحية اذا ما تمت مقاربة الحالة اللبنانية بروحيتها.
 
الخسارة العسكرية لم تهزم الأمم عبر التاريخ. الوهن النفسي فعل. علينا أن نستعيد العقل أولاً، ثم نسخّر القوة لصالح العقل ثانياً. لا شيء سوى العقل. لا مناص من العقل لإعادة تشكيل الهوية الواحدة والمصالح المشتركة بناءً عليها لا على الطائفة. الوعي الجمعي ممل، نعم، لأن صحفنا أمست مملة، والمدرسة والجامعة والإعلام وحتى هواياتنا وجلسات المقاهي، كلها مملة بعدما افرغت من المعنى ومن وظيفيتها، وتبدأ استعادة العقل بآستعادتها. فالمعرفة هي السلطة. أوروبا تسيدت العالم بالعقل بعد سقوط بيزنطة، بالعقل لا البطش. برفس الذل الذي وثَّقه الرحابنة في "سفربرلك"، لا التأقلم الذي دعا إليه أخر عنقودهم، غسان، في اطلالة له قبل اشهر. بالفكر المستقل لا بثقافة المتابع التابع الإمَّعة، فنردد الشعارات بحماسة خلف "الإنفلونسر" على اعتبار انها ثوابت، وننتهي إلى ما إنتهى إليه أحد وجهاء قريتي من ذوي الحماس المختمر عندما اختطفه مسلحون في ثمانينات الحرب، وانطلقوا به إلى طريق ناء لا ينجو منه سالك، قاموا بإنزاله من سيارته الفارهة معصوب العينين، وصاح به احدهم من الخلف لرفع يديه عالياً والسير قدماً، ثم غرس المسدس في رقبة الكهل الطيب وأمره، بعد خطوات معدودة بالركوع، أيقن الرجل حينها أن ساعته قد دنت، فما كان منه إلا أن توجه لخاطفه بشجاعة تغالب الفزع، مردداً ما أصبح مونولوجاً حفظه كل أهالي القرية عن ظهر قلب فيما بعد: "قبل ما تقوصني بقلك كلمتين.. أنا عربي عربي عربي.." وما أن أنهى جملته، فخوراً بزفرأنفاسه الأخيرة ثابت القلب على الثوابت، حتى سمع أبواب سيارته تغلق على عجل وتغادر مسرعة. فر اللصوص بماله، وعاد هو والمونولوج إلى دارته ماشياً بثوابته، وخفي حنين.
ارفس...
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم