السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

شوقي دلال و"ھمس الخلود السقراطي"

المصدر: "النهار"
اللوحة.
اللوحة.
A+ A-

شوقي أبو لطيف

یبدو لي، كمتتبّع لمسیرة الفنّان شوقي دلال، أنّ مدرسة فنّیة جدیدة ومختلفة تظھر في الآفاق، لتفتح رؤیة في جدار المعارف ذات الطابع المیتافیزیقي مفادھا أن الفن قد بدأ بانتزاع الوظیفة المتبقیّة للفلسفة، ألا وھي النقد، بعد أن ضاقت مناھج التعلیم في عالمنا الشرقي خاصّة، بذلك التعقید المصطلحي للعبارة الفلسفیّة، التي لم تكن لتستسیغھا الذائقة التقلیدیّة للتعلیم، بل للتعالیم المبنیّة على التلقّي والإثارة التشویقیّة للقصص، والأوھام المتعمّدة في توسعة العالم المعارفي للمتلقّین، الذین ھم في غالبیتھم غیر
محتفین عادة بالإختلاف، بقدر ما ھم مغتبطون بالصورة النمطیّة.

قد یتساءل القارئ في لوحة "ھمس الخلود": ما الذي یدفع الفنّان في عصر سیبراني أن یقدّم لأھل ھذا العصر لوحة، ھي أشبه ما یكون بمنحوتة من المنحوتات التي ازدانت بھا محاریب المعابد الدینیّة في الشرق القدیم؟

على أنّ إجابات كثیرة قد تكون مُعدّة من قبل من یعرفون الفنّان شوقي دلال عن كثب، أو یعرفونه من خلال ظھوره الیومي الناشط على صفحات التواصل الإجتماعي، أو یعرفونه من خلال نشاطاته الفنیّة والثقافیّة الممیّزة في لبنان والعالم العربي، والتي قد تنبئ أنّ الرجل صاحب رسالة متعدّدة التوجّھات والأغراض في أكثر من منحى، بید أن إجابة قد یغفل عن التفطّن إلیھا أولئك العارفون ألا وھي أن الفنّان شوقي دلال یرنو الى سماع "ھمس الخلود السقراطي"، الذي ارتكز في حیاة سقراط وحواراته الصاخبة الى حرفتین ملاصقتین جینیّاً للفیلسوف الأثیني الأكثر شھرة في العالم الفلسفي، ھما حرفة التولید المتوارثة عن الأم القابلة، وحرفة النحت المتوارثة عن الأب النحّات، ففي الحرفة الأولى كان سقراط عاملاً على تولید العقول، وفي الحرفة الثانیة كان عاملاً على نحت الأفكار.

أمّا شوقي دلال، الذي یبدو أنّه یصغي في عالمه الداخلي إلى "دیمون سقراطي" مضاف إلى دیمونات فنیّة عدّة توقظ أعماله الفنیّة كل یوم، فإنّه ولا ریب یخوض في حوار فلسفي حضاري مع الفیلسوف الأوّل الذي دعا الى اكتشاف الإنسان، بدلا من الدوران حول الطبیعة، والجدل السفسطائي حول الحقیقة.

في اللوحة الجداریّة المنحوتة إشارات جمّة الى توجّه الفن نحو الفلسفة، التي كثیراً ما یتبرّم الناس بصعوبة الولوج الى ما یكتنف عباراتھا من غموض وتكثیف وتعمیق یضیق بھا ذرعاً أصحاب المعرفة العامیّة الذین یفضّلون المعرفة المبسّطة والمباشرة واللغة التداولیّة المرنة.


تبدأ الإشارات الفلسفیّة في لوحة "ھمس الخلود" حین تعتلي "بومة منیرڤا" سقف المحراب السقراطي، لتدلّل على الطائر الذي یطیر في الظلام، حسب معتقدات الإغریق القدامى، والتي اتخذت معنى الحكمة أو الفلسفة في كتابات ھیجل، ومن ثم حین یسوّر الفنّان المحراب بثمانیة أشكال أنسیّة مولیة الوجوه بما یشبه حال أھل الكھف في الأسطورة الیونانیّة، على أن الفتحة ذات الشكل المثلّثي تنبئ بانبلاج معارفي یتعدّى المحسوس القریب الى اللامحسوس البعید، بید أن من یتوسّطھم یبدو كأنّه المؤسّس لربیع الفكر الیوناني، ألا وھو الذي یھمّ بالخروج من كھف الحواس إلى مدالف العقل في مساكب النور، وھذا ما یتبیّن في الإطار الفیروزجي المضمّخ باللون الأصفر لضوء شمس خجول في حضرة اللحظة السقراطیّة للاحتضار.

ویستنطق الفنّان شوقي دلال المعلّم السقراطي في ما یتضمّن كتابه المُثقل بالقول غیر المكتوب، المستوحى من حكیم شرقي ما، تتوقّد في عینیه الغائرتین منابع الإشراق، وتترقرق من فتحة فمه جداول كلمٍ منسابة على المحیط الأزرق في سماوات الإبداع الإنساني، أو ذلك المداد المتأتّي من فیض نوراني ترتسم آفاق ظلاله على ھیئة حكیمٍ متحقّق. وإلى جانب ھذا الوجه وتحت السّاعد الأیسر المكبّل للفیلسوف الیونانيّ، یظھر رسمان لملیكة وملك، تبدو الملیكة كإلھة أثینیّة مجلّلة بالنور متدثّرّة بفتنة الإغواء، ینھتف إلیھا ملك اتّخذ مھنة الحوذي المشرّع للدیمقرطیّة، بید أنّه محاط بحصانة التاریخ الأثیني في خداع طروادة ومن عتم المداد على الأفق السقراطي ذي اللون السماوي المنفرج على جزر وأرخبیلات تحیط بالمدى الأثیني للفلسفة، في محاولة للنّیل من المتحرّر المتمكّن من رؤیة النور، الذي لم تمتد یده بعد الى تناول الكأس الزعاف، فھنا یستعمل شوقي دلال الوحي الإسبازي لمعلّمة متحدّرة من سوریاه السوریالیّة، فتظھر الى یمین سقراط إیحاءات الشرق الزراعي على عتبة دلفیوس ومشاعل الشرق الدینیّة، وشعائر الغبطة بما وراء الطبیعة من نفس كوني تستنشقه العقول في كل ھنیھة قلق معرفي أو أرق تكویني مرتبطین بخصب الزرع الأوّلي، و"بانثیئیّة" تعني محایثة الخلق للخالق، وھي تعني الكشف عن التضاد المكتنز في نوامیس التكوین وانبثاقة العقل من ثنایا الكھف حین تنفرج اللوحة من خوالج سقراط عن سماوات عمیقة تستبین لنا على ھذا المثلّث المقلوب ما بین العناصر الخمسة المسوّرة للّوحة في الأسفل عن یمینھا، والثلاثة الاخرى عن یسارھا.

 أما ما یسند الكتاب المغلق المُعَنْوَن بأحرف منفصلة من أفقین متناظرین مع غلبة الأفق الأنور، فإنّھ تعبیر شقدلالي عن توقّد الجذوة الحكمیّة الیونانیّة من منازع ما تأدّى الیھ التضاد الإغریقي الھیراقلیطي من رؤیة التولیف في تشكّل الأشیاء، وفي تغیّرھا الدائم، ما یسبّب التشكیك في ھویّتھا الھیولانیّة، لولا أن سقراط قد وضع ذلك على منضدة سدیمیّة حرّى، استوجبت الشفاء من الموت، أو ما یسمّى الخلود في الرمز الى الأفعى الأسطوریّة المستمدّة من ملحمة جلجامش، فیضع الإغریق سمّھا في الكأس السقراطي على أمل موت العقل، في حین أن الشرقیین القدامى یأخذونھا باتجاه ملامسة المجھول بحثاً عن الحكمة الغائرة في المحیط الأزلي الذي تحول دون رؤیتھ الظلال المبثوثة فوق تیجان الملوك، لولا أن قدّر لاسبازیا أن تتخّذ كرسیّھا المعارفي فتركن إليه متوّجة بإیحاءات الخلود إذ تجرّد معھا سقراط، في الحوار الشقدلالي من زعاف موتٍ مشرعن بالقانون إلى أعراف خلود تترجمھا الألوان المحیطة برأس سقراط والمتوّجة بالطائر الذي یرمز الى فلسفة التفكیر في المجاھل من أجل الخروج من العتمة وانجلاء فھم الوجود.

كم یبدو الفنان شوقي دلال ملمّاً بالحادث التاریخي والمجال الحیوي للحضارة، حین یدلف في خلفیّة لوحته الجداریّة الى محیط مائيّ وأرخبیلات متفرّقة تتماوج حولھا ألوان أثیرٍ وأجباه جبال راسیات، یدھشك منھا الألوان التي تحاكي التزاوج بین الغروب والشروق، بین عناصر الطبیعة وما بعد الطبیعة، فتكتسي اللوحة بعداً إدراكیّاً، ھو ولید المخیّلة، التي تستعید الرؤیة من زمانھا الأولي، على ھدي آني، لكأني به في ھذا التأویل التشكیلي لموت سقراط، یتقمّص رؤیة ما تزال محفوظة في حنایا نفس شھدت على الحدث الأكثر خلوداً في تاریخ الفلسفة، بأن یمنع المحكوم علیه وعن طلب العفو من حاكم یحكم باسم القانون، وإن كان ھذا الحكم جائراً بحق الفیلسوف الذي أحبّته الناشئة، كمعلّم یفتح الحیاة على مآدب الكشف والتجلّي.

وفي الختام یتبیّن لي أن تقمّصاً شقدلالیّاً، یخاطب سقراط مما بین الرافدین، بلغة الفن السومري، في شيء من التفاخر الحضاري، الذي یشي بأسبقیة ولادة الفلسفة في الحواضر العریقة، بشرق مغبون بدعوى أنّه أسرف في الركون الى روح تستكین في متاھات الغیب وتغیب في متاھات الجسد، بید أن شوقي دلال في ھذا كلّه لا یحاول أن یستیقظ من حلم جمیل في حوار سقراطي غیر مسبوق، عندما یعلن في اللوحة أنّه تمكّن من سماع "ھمس الخلود" في محاكمة سقراط.

 

*الدكتور شوقي أبو لطيف أديب وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم