الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

صحن زوباع ولا كرسيّ ذمّيّ للرئاسة

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
أمضيتُ بعد ظهر يوم السبت التاسع من نيسان، في المحافير، رفقةَ صديقي كوبر. وبقينا، هو وأنا، نتنزّه، بل "نعمل" هناك، حتّى الدغشة، وهو أوانُ نزولِ أوّل العتمة.
 
أهل القرية، بزيزا (التسمية تحريفٌ، على قول الأب لامنس، لبيت عزيز، الذي له معبدٌ رومانيّ قائمٌ بحجارة هيكله وصحنه وأعمدته)، من أعمال الكورة، مسقطي، يعرفون المحافير جيّدًا و"عن الغايب". كرومٌ من الزيتون، وجلولٌ، وحفافي، في الخراج الغربيّ المطلّ على جارتنا البهيّة الطلعة، دار بعشتار (دار عشتار؟!)، التي تجمعنا بأهلها القراباتُ، والمحبّاتُ، والصداقاتُ، وضفّتا النهر، المعروف باسمه الشعريّ، نهر العصفور.
 
الدربُ إلى هناك بوصلةُ الفرارِ إلى الأوركسترا المطلقة، حيث تتصاهرُ آلاتُ الموسيقى الكونيّة، وتتجامعُ، إكرامًا لاختلاء مهابةِ الصمت وحنكةِ النسيمِ المتصاعدِ من الوادي، بخفّةِ الثعالبِ وبلونِ هديلِ الشرود.
 
كلّما تسنّى لي "اللجوءُ"، ذهبتُ إلى هناك، تعبيرًا (من جهة) عن انتمائي الطوعيّ إلى نظريّة "الفنّ للفنّ" ومفاعيلها في الوجدان، وتسليمًا صوفيًّا (من جهةٍ ثانية) بالنشوة الجماليّة المجانيّة التي تُوهَبُ لمَن يشاء، بلا مقابلٍ، وبدون تمنين.
 
لكنّ الزوباعَ كان السببَ، هذه المرّة، وكان الذريعة. أمّا الزوباعُ – وما أدراكَ يا صديقي كوبر ما الزوباع – فهو الصعترُ الأخضرُ البرّيّ، المنتمي إلى أمّه الأرض، المتآخي مع أترابه من زهورٍ وأعشابٍ وسَيكُونٍ ووزّالٍ وبلّانٍ وقندولٍ، والملتحفِ بأحجارِ الجلول، والنابتِ بالتلقاءِ، من التلقاءِ، بنعمةِ التراب، وبموهبةِ الأخضرِ الذي يتباهى بعريه، فيفوحُ ضوعُهُ، ويُغوي ويُطرِبُ ويُسكِرُ وينتشي. وهو يفعلُ ذلك، كما تفعلُ امرأةٌ أمامَ ذاتِها، أمامَ مرآتِها، على مرأى من يديها، على مرأى من العين والقلب والعقل، بالعفويّة المطلقة، لا خجلَ في ذلك، ولا هوادة.
 
 
فلأعُد إلى الزوباع، وهو سببُ النزهة والفرار، وهو الغاية، وهو المرتجى. فالزوباع - لمَن لم يُجرّب – هو دواءٌ شافٍ ومُحفِّزٌ (طبيعيٌّ) وطعامٌ طيّبٌ يُؤكَلُ بلذّةٍ لا تُدانيها لذّة. وهو شهيٌّ إلى حدِّ الجموحِ الذي يجعلُ شخصًا مثلي ينحني عليه انحناءً، برنوِّ عينيه، فيأخذُهُ بحواسِّهِ جميعِها، وبجموعِ الأصابع، مغموسًا بالزيت (البلديّ الكورانيّ)، ومُنكَّهًا بالبصلِ المفرومِ، بالملحِ، وبالحامضِ من الليمون. وإذا كان صحيحًا أنّ الأيّامَ هي أيّامٌ سودٌ، فإنّ الزوباعَ هو طعامُ لا الفقراء والمعوزين والمتواضعين وأهل الأرض فحسب، بل وليمةُ العارفين بالسرّ، المُلِمّين بخلطةِ الشهوةِ التي تُملأ وجودَ الكائن، وتُغنيه، وتُفتّحُ له الدروبَ على الكنوزِ كلّها.
 
عندما كنتُ في طريقِ العودةِ إلى البيت، إلى جنينةِ البيت، رفقةَ كوبر بالطبع، ورفقةَ كيسٍ مليءٍ بالزوباعِ من خيراتِ هذه الأرض، تهيئةً لإعدادِ الوليمةِ المرتجاة، تلقّيتُ عبر خدمة الواتس اب خبرَ الإفطارِ الرمضانيّ الذي أقامه السيّد حسن نصرالله لحليفَيه اللدودَين، رئيسَي "تيّار المردة" و"التيّار الوطني الحرّ"، المرشّحَين (المارونيّين طبعًا) لرئاسة الجمهوريّة، داعيًا إيّاهما بـ"مَوْنَته" عليهما إلى تناسي الخلافات والمنافسات الحادّة والجارحة، أو لجمها في الأقلّ، من "أجل وحدة الصف"، وتأمينًا للأكثريّة النيابيّة، ولا سيّما عشيّة الانتخابات في أيّار الذي على الباب.
 
لا أعرفُ إذا كان طعامُ الإفطارِ هذا، قد نزل هنيئًا ومريئًا على معدتَي الرجلَين، وخصوصًا بعلنيّته (وأبويّته البطريركيّة) الإعلاميّة الفاقعة، ومفاعيله التي لا (تنبلع) ولا تخفى على أحدٍ عند اللبنانيّين عمومًا، المسيحيّين والموارنة خصوصًا.
 
كلُّ ما أعرفُهُ من جهتي، أنّي لا أسمحُ لإعلانٍ كهذا، بأنْ يفسدَ عليَّ متعةَ فراري الشعريّ إلى بزيزا، ووليمةَ الزوباعِ الموعودة، التي أفضّلُها – بلا تردّد - على كرسيِّ رئاسةِ الجمهوريّة اللبنانيّة. فكيف إذا كان هذا الكرسيُّ قد آلَ إلى ما آلَ إليه من انحطاطٍ (مسيحيٍّ مارونيٍّ)، وصار ممجوجًا، ومكروهًا، و... ذمّيًّا، وإلى هذا الحدّ الفاقع؟! والسلام.
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم