السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

قراءة اقتصادية في مشروع الموازنة

د.أيمن عمر – باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية
قراءة اقتصادية في مشروع الموازنة
قراءة اقتصادية في مشروع الموازنة
A+ A-

إن من أبجديات علم المالية العامة في ما خصّ الموازنة العامة للدولة اعتبارها خطة سنوية تستهدف تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية وتنموية في أبعادها الاقتصادية الكلية: تحقيق التنمية المستدامة وتوفير الأمن الاجتماعي وتخفيض حدّة التفاوت الاجتماعي، وتقليل البطالة والحدّ من التضخم، زيادة الدخل القومي، تخفيض العجز في الميزان التجاري وإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات وتحقيق الاستقرار في صرف العملة الوطنية. وهذا ما لم نشهده في مشروع موازنة 2019 المقترحة من قبل الحكومة اللبنانية. فالموازنة المقترحة ما هي إلا أرقام حسابية مجردة بعيدة كل البعد عن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المطلوب تحقيقها من الموازنات. فهي عبارة عن مستند قانوني رسمي لبناني فحسب مقدم من الدولة اللبنانية إلى المجتمع الدولي للحصول على الأموال الموعودة من قبل المانحين في مؤتمر سيدر، لذلك ينطبق عليها ما وصفها به أحد السياسيين البارزين بأنها موازنة سيدر.

الموازنة وتخفيض العجز المالي

إن جلّ اهتمام السلطة السياسية خلال إعداد الموازنة كان منصبّاً على تخفيض العجز المالي بحسب الشروط المفروضة من قبل مؤتمر سيدر. وبحسب السلطة فإن نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي سوف ينخفض من 11.5% إلى 7.59% معتمدين على الأرقام التالية: قيمة الناتج المحلي المتوقعة للعام 2019 سيبلغ 89935 مليار ليرة لبنانية أي حوالي 59.66 مليار دولار(السعر الرسمي: الدولار = 1507.5 ليرات)، بالمقابل النفقات المنصوص عنها في مشروع القانون 23340 مليار ليرة لبنانية، نضيف إليه 2500 مليار سلفة لدعم كهرباء لبنان أي أن مجموع النفقات يبلغ 17.14 مليار دولار. في المقابل لدينا واردات تبلغ 19016 مليار ليرة (12.61 مليار دولار)، وهنا لا بد من وضع نسبة العجز المالي على بساط البحث والتشريح، بالنظر إلى شقّيه العجز المالي والناتج المحلي الإجمالي، وفق المعادلة التالية: (الإيرادات العامة – النفقات العامة) % الناتج المحلي الإجمالي.

- حجم الناتج المحلي الإجمالي: تختلف تقدريرات الناتج المحلي باختلاف المصادر. ففي آخر تقدير رسمي للحسابات القومية الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي كانت للعام 2017، قدّرت الناتج المحلي بـ 53.4 مليار دولار بالأسعار الجارية مقابل 51 مليار دولار للعام 2016، ومع نمو الناتج المحلي بنسبة 1% في العام 2018 يكون الناتج المحلي في هذا العام مساوياً لـ53.934 مليار دولار. في حين يقدّر البنك الدولي بحسب تقريره المعنون: " الآفاق الاقتصادية" الصادر في نيسان 2019 الناتج المحلي للعام 2018 ب 56.6 مليار دولار. وبحسب تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي في نيسان المنصرم فإن نمو الناتج المحلي المتوقع للعام 2019 هو 1.3% ، ومن ثم فإن قيمة الناتج المحلي المتوقعة بالأسعار الجارية للعام 2019 ستبلغ 57.34 مليار دولار أي ما قيمته حوالي 86433.7 مليار ليرة لبنانية بحسب صندوق النقد، و

54.635 مليار دولار (82362.47) بحسب إدارة الإحصاء، وفي كلتا الحالتين ليس89935 مليار (59.65 مليار دولار). من هنا فإن قيمة الناتج المحلي الذي اعتمدت عليه السلطات هو رقم يجافي الحقيقة، إلا إذا كان للسلطة احتساب مختلف للناتج المحلي، أو هدفها تزييف الأرقام من أجل تخفيض نسبة العجز المالي ورقياً.

- العجز المالي: من أهم مبادئ الموازنة "السنوية" بمعنى أن الموازنة توضع عن سنة كاملة. وبالتالي فإن تخفيض العجز المالي من 11.5 إلى 7.59 لن يتحقق، لأنه بعد إقرار الموازنة في مجلس النواب تكون أكثر من نصف سنة قد انقضت، وبالتالي في أحسن الأحوال - هذا إذا صحت توقعت أرقام النفقات والإيرادات- فإنه على الأقل نصف هذه النسبة من تخفيض العجز صعبة المنال. مع العلم أن التجارب التاريخية تثبت أنه من النادر في لبنان إن صحت توقعات أرقام الموازنة كما هي، بسبب تفشي الفساد وغياب الرقابة وسوء الإدارات العامة ناهيك عن سوء التقدير عند إعداد الموازنة. وما موازنة العام الماضي إلا خير شاهد ودليل على ذلك.

مع العلم أن للنمو الاقتصادي الضعيف تأثير سلبي على الإيرادات الحكومية، وقد أكدت على ذلك وكالة "موديز" في 30 أيار 2019 في تقريرها بعنوان "الحكومة اللبنانية: مشروع موازنة 2019 يستعيد الفائض الأولي لكن مسار الدين يبقى صعباً" بالقول "لرفع الإيرادات أثر محدود في ظل النمو الضعيف". مما سبق نستنتج أن نسبة العجز المالي في أحسن الأحوال لن تنخفض عن 9.5% (طبعاً هذا أمر جيد ولكن ليس كما يدّعي أصحاب السلطة). يؤكد ما سبق ما توقعه البنك الدولي في تقريره السالف الذكر من أن تطرأ زيادة تدريجية على نسبة عجز الموازنة العامة إلى إجمالي الناتج المحلي في الأمد المتوسط في ظل ازدياد أعباء خدمة الديْن. ورأت وكالة ستاندرد أند بورز في 28 أيار المنصرم أن عدم تحقيق خفض العجز المالي هو أمر وارد، لا سيما أن إجراءات خفض التكاليف ستطبق فقط في النصف الثاني من العام.

هل الموازنة تقشفية؟

يصف العديد من المسؤولين هذه الموازنة بالتقشفية. فالدول عادة ما تتبع سياسة التقشف عبر تقليل الإنفاق والمصروفات غير المجدية وتقليص الرواتب العالية والمزايا العينية للوظائف العليا، وذلك في حالة التدهور الاقتصادي. التقشف هو السياسات التي تستهدف تخفيض حجم الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب بهدف خفض عجز الموازنة العامة للحكومات وتخفيض نسبة الدين العام والعجز المالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن بالمقابل يعتبر بعض الاقتصاديين أنهاعلى العكس من ذلك دائما ما يصاحبها ارتفاع في معدلات البطالة وانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي.

ولكن ما نلاحظه في مشروع الموازنة أن هناك أبواباً عديدة للتقشف لم تطرق الحكومة أبوابها بشكل جدّي وفعّال، وهي أبواب للهدر والفساد منها على سبيل المثال لا الحصر: الأملاك البحرية والمباني الحكومية المستأجرة والجمعيات الخيرية والمدارس الخاصة المجانية وغيرها، والتي بإمكانها توفير موارد لخزينة الدولة أكثر من مليار دولار. ولا شك أن هذه الموازنة تزيد من حالة التدهور الاقتصادي الذي نعانيه في ظل النمو الاقتصادي الضعيف والذي بلغ 1% في العام 2018 بحسب صندوق النقد الدولي، فالهدف من التقشف ليس توفير الموارد المالية للدولة من أجل ضخها في مشاريع تحرك النشاط الاقتصادي لتزيد من معدل النمو الاقتصادي، إنما حصر الهدف بتخفيض نسبة العجز المالي فقط. بالإضافة إلى أنها سوف تؤثر على الاستهلاك الخاص والذي هو مكوّن أساسي من الناتج المحلي. ولا تتضمن الموازنة أي محفّز للقطاع الخاص من اجل تشجيعه على الاسستثمار يضاف إليه عامل آخر محبط للاستثمار وهو نسبة الفوائد العالية التي تعطيها المصارف للمودعين. ومن ثم فإن جميع هذه الأسباب سوف تؤثر على النمو الاقتصادي سلباً. ولا يمكننا إغفال إمكانية ارتفاع الأسعار بسبب فرض الرسوم الجمركية بنسبة 2% على جميع الواردات، مع بعض الاستثناءات (المادة 63). فلبنان يستورد 75 %ٍ من حاجاته والمقدرة بـ 20 مليار دولار، فيما لا يصدّر إلا ما قيمته 3 مليارات دولار. من هذا المنطلق فإن الموازنة المقترحة سوف تسهم في زيادة حالة الركود التضخمي Stagflation . ويجب إضافة ملاحظة أن هذه الموازنة تزيد أيضاً من حدّة التفاوت المناطقي وتخالف البيان الوزاري لناحية الإنماء المتوازن وذلك عبر إهمال العديد من المناطق الفقيرة - وعلى رأسها طرابلس- من المشاريع الإنمائية (المادة 14 قانون تعديل البرامج).

أين الإصلاحات في الموازنة؟

يعاني الاقتصاد اللبناني والمالية العامة من اختلالات بنيوية تجعلهما عرضة دائماً للاختلالات والتدهورات. ولم يأتِ مشروع الموازنة هذا بأي إجراءات جذرية تغيّر من هذه البنية أو تصحح الاختلالات الموجودة. بل العكس من ذلك تماماً، فإن بعضأ من بنود ومواد الموازنة يزيد من حدّتها. كان الأولى والأجدى أن تأتي الموازنة لتترجم خطة ماكينزي – والتي كلفت الدولة مليون و300 ألف دولار- إلى واقع عملي. الخطة الأخيرة التي دعت إلى التركيزعلى القطاعات المُنتجة ذات القيمة الإضافية العالية، كما تقترح تحويل لبنان إلى مركز حضاري وتجاري وسياحي. وأشارت الخطة إلى انه يمكن لخمسة قطاعات أن تساهم بشكل كبير في تحقيق تطلعات لبنان الاقتصادية، وهي: الزراعة، الصناعة، السياحة، الخدمات المالية واقتصاد المعرفة، بالإضافة إلى التركيز على قطاع الانتشار. ونلاحظ تخفيض اعتمادات وزارة السياحة بنسبة 38.4%، وهي النسبة الأعلى، إذ باتت محددة بـ17136 مليون ليرة، بعدما كانت مقدّرة بـ23722 مليون ليرة في العام 2018. والمادة 43 فرضت رسم مقابل إشغال غرفة في فندق أو شقة مفروشة، والمادة 17 في فرض غرامات على الشركات السياحية. وكذلك خفضت اعتمادات وزارة الزراعة من 96,546 مليون ليرة إلى 86,943 أي بنسبة 11.04%. وكذلك خفضت اعتمادات وزارة الصناعة من 9,781 مليون ليرة إلى 9,678 أي بنسبة 1.06%، وهي بالأساس من الاعتمادات الضعيفة. فهل هذا الأمر يتماهى مع الخطة المذكورة. ومن أهم العوامل للانتقال إلى اقتصاد المعرفة هو دعم وتطوير الجامعة اللبنانية ولكن ما يحدث في الموازنة هو ضرب الجامعة اللبنانية عبر تخفيض ميزانيتيها 40 مليار و531 مليون و400 ألف ل ل وشمولها بمنع التوظيف فيها لمدة 3 سنوات. إذاً يتبين لنا أن الموازنة المقترحة ما زالت بعيدة كل البعد عن الإصلاحات الاقتصادية والتي نادت بها خطة ماكينزي والانتقال من اقتصاد الريع المالي إلى الاقتصاد الإنتاجي المرتكز على القيمة المضافة. والمادة الوحيدة في مشروع الموازنة والتي تطال القطاع المصرفي هي المادة 30 من الفصل الثالث، والتي تفرض ضريبة 10% لمدة 3 سنوات (بعد أن كانت 7%) على فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة والودائع وحسابات الائتمان وإدارة الأموال وشهادات الإيداع وسندات الخزينة، وهي بمجملها تطال المودعين ولا تخدش أرباح المصارف بأي خدش.

لا شك أن الموازنة بصيغتها الحالية تحمل العديد من الإيجابيات في مقدمتها عودة الانتظام إلى المالية العامة والاستشعار بخطورة الوضعين المالي والاقتصادي المتدهور والبحث في حلول وبدائل جديّة لمعالجة هذه المشاكل.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم