السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

عن الأم

المصدر: "النهار"
هديل الزعبي
عن الأم
عن الأم
A+ A-

إن كل شقاء تحمله الأم في ذاتها يفرض علينا شعوراً بالأسى، فمن المعروف ارتباط الأم على مدار حياتها بالتضحية. إنني أتقزّز من العادات الاجتماعية التي تفرض عليها التضحية العمياء، مستغلّة عاطفة الأم، في سبيل من أنجبتهم كنوع من مجابهة المجتمع وضمان استمراريتها هي! لنراها في نهاية المطاف بعد استنزاف عمر بكامله، تتساءل: أين ذهب العمر؟ ولماذا ذهب هكذا؟! معترضة: إنني لا أوافق.

هذا ولم أكن أعلم أن التفكّك الأسري سينحر فينا إلى هذا الحدّ، كما ينحر مجمل من عايشتهم من أصدقاء. إننا نكبر لنستقل، لكننا ما زلنا نرفض في ذواتنا، الفعلة الاجتماعية، التي أجبرتنا على الاستقلال بطريقة معينة! وبالتالي فإن الأم أول من يدور في فلك هذه الدائرة، وأول من تصيبها النتائج والتبدلات بفعل الزمن فهي تلهّت، مجبرة، في أن لا تجد لنفسها وسيلة قوية لتمكنها من العيش في سلام، في سبيل حماية آخرين والعمل على رعاية مستقبلهم! أما الآن فهي ترتعب لمجرد التفكير في المستقبل الذي لطالما مر بها مجهولاً وبغير رضاها! ومع ذلك أنا لا أرمي إلى فكرة تقديس الأمهات لمجرد حصولهن على هذه الصفة، بل إلى اللواتي دفعن ثمنا أكبر مما عليهن دفعه في سبيل الأمومة في مجتمعاتنا هذه!

• وعلى ذلك فإنني أفضل ألا أستفيض بتفاصيل يدركها الجميع ويعرفها حق معرفة عن أمهاتنا، إنه يبدو لي كمن آن له أن يتقبل حالة من حالات الوراثة، حتى بتّ لا أنفكّ عن مقارنة ما تعانيه أمي بما أعانيه، إنني الآن أصطف إلى جانبها، لا لوعيٍ مني فقط، إنما لشعور بألم دفين لا يشبه في عمقه سوى ألم الأمهات! وكأني أرفع بوصفي هذا مرتبة الألم في نفسي. في الحقيقة كلا، إنني لست سوى شاهدة، هذا يرهقني، ويرهقني أن أظل هكذا، كما يرهقني ما تتطلبه مشاهد راسخة في أذهاننا منذ زمن، من أجوبة. إنني أزداد اقتناعاً مع كل يوم بضرورة إيجاد تفسير، لست أدري إن كنت أصبت بنوستالجيا مزمنة منذ فترة، لكن وجه أمي الشاحب منذ طفولتي لا يزال هو نفسه ولم يتبدل! يبدوهذا لي تفسيراً ملائماً لحالتي. إن أصعب فكرة لدي هي بديهة يدركها الجميع، لكن فيما بعد، هي لم تكن تعلم أنها ستكون فريسة للمجتمع بكل مكوناته، وعلى رأسهم الأسرة. والله لو كنت أعلم لأخبرتها. وفي مقابل هذا أعلم أن هناك أمهات قد جرّدن أنفسهن من هذا اللقب، لكن حتى الآن لم ترَ عيناي إلا اللواتي هدرن بالعاطفة، حيث كنّ لا يملكن سواها. كما أعرف أنني بحاجة ملحة إلى البوح، وربما إلى البوح بطريقة ما. فلحسن إيجاد كلمات مكتوبة بعناية لهدف البوح! حتى لتبدو لي زخرفة النص رتيبة وهي بالطبع لن تصلح ما أفسده الزمن بثقله، لأن أمي لا تزال تتكور أمام عيني في مشهد واحد مظلم تتصارع فيه مع نفسها، لكن هذه المرة لأجل نفسها! أما أنا فأشاهد الآن شبيه ما مرعليها في السابق ومرعليّ عن غير قصد، فقد كانت هي المقصودة عندما كانت تجلس في ممر بيتنا الضيق في ظلام معتم، كانت منتكسة حينها من صراع مضنٍ في أسرتنا التي تفككت منذ نشأتها برغم المحافظة على المشهد الأسري المجتمعي إلى حدود عمر ما! إن ذلك المشهد مسّني مباشرة، لكنه اقتطع منها عمراً وأكثرعلى التكرار، وها هو سيظل ينخر فينا على ما يبدو. إن صديقتي ت. تسرد أنها ما زالت تذكر ملامح أمها عندما كانت تأتي لتزورها خلسة في المدرسة الابتدائية، فما كان من زميلاتها إلا أن يسخرن منها. إنها ذكرى ثقيلة علينا، فكيف هو تأثيرها على الأمهات، أما أمي فأذكر أنها كانت وحيدة آنذاك حين استرقتُ النظر إليها في الممر الضيق، وأعلم أن أسباباً معروفة كثيرة ومتشابهة قد عايشتها غالبيتنا مع الأم في معظم الأسر المفككة، حيث لا بد من تضحية تقدمها في نهاية المطاف. وبرغم ذلك ترفض أمي التصليح أو الترقيع. ولا تقبل إلا بالتغيير الكلي. إنها تريد أن تستعيد عمرها وتعمل وتدرس وتتمرد أكثر أو تستشرس أو تبني منزلاً لها، أو أن تجعل أولادها في الصورة التي كانت تتصورها وتحلم بها، لا بما أصبحوا عليه! لكن الواقع لا ينفك يعيدها إلى الماضي. إنه يسحبها، إنها تبكي مثل طفل صغير منذ وفاة جدّتي حديثاً! أما الآن فلا أعلم لماذا أقحم نفسي في هذا الصراع إلى هذا الحد، ولكني أميل إلى الاعتقاد أن النسوة يفضلن نجاة الصغيرة على فايزة أحمد على الرغم من تجلي ذكورية مفرطة وهوان وابتزاز في المشاعر في أغاني الأولى، التي لم تنهِ أغانيها مرة إلا وقد عادت إليه أو طلبت منه الرجوع إليها. وبرغم أني أرى هذا الهوان في المشاعر، إلا أنني أميل في نهاية الأمر إلى نفس شغفهن هنا! إنه تأكيد طريف على نوع من التضامن!

• وبالعودة إليك. فقد تغيبت متعمدة عن ملاقاتك في عيد الأم الفائت حيث لم أكن أملك شيئاً مما تطمحين إليه أو أجوبة لتساؤلاتك، ذلك أنني أتساءل مثلك! لا أعلم كيف أُرجع إليك عمراً قد ذهب ولا أعلم أين عساي أجده مثلا؟ ! إني لا أملك سوى أن أقول إن كل الحق معك فيما تشعرين. إنك ما زلت تعترضين لأن الدهر لم يسمح لك بأن تكوني منتجة، وأنا لا زلت جاهلة الطريقة الكافية لاقناعك بالكف عن النظر إلى الماضي، فمن أنا لأمحو لك في لحظة ما عبثته بك ومعك الحياة العنيفة! جُلّ ما كنت أفعله هو الاقتناع بتذويب قضيتك في الإطار الجماعي، حيث يتماهى الوجع الفردي ويذوب. ولكني غدوت مصرة على العكس لأنني أعتقد أننا بحاجة أحياناً لنرى عواطفنا خالصة وهي تستحق التقدير أقلها. أرى أنك تكبُرين، لم أكن أتخيل هذا يوماً وأنا على غير جهوزية له! ومع ذلك واضح أنك ما زلت مستعدة للمحاربة من جديد لنيل ما تريدين، إنك لمن صبغة النسوة اللواتي لا يرضين بغير التميز ولو في دائرتهن الضيقة! وهذا دليل على أن كل أمرأة وأم تحديداً إنما يصطبغ لون نضالها بظروف حياتها الخاصة.

• أعلم أنك تكتبين وتخبئين كتاباتك في الجوارير، أستذكرها من العام الفائت جملاً برغم بساطتها بدت مليئة بالعاطفة والأسى والحزن! ربما كنت ستصبحين "باحثة في علم الاجتماع " كما تقولين. أتعلمين أنك من اللواتي سيبقين غير راضيات على عيشتهن حتى النهاية، ذلك أنهن لا يرغبن أن تكون الواحدة منهن عابرة راضية مستسلمة! هذا وأحولها إلى كلمات نشيد النسوية! ربما لأن المجتمع يحب أن يسمعها مربوطة بهذه الأمور فلا يتقبلها كما هي بفطرتها الأصدق والأقوى! إن المجتمع يكاد من شدة هزله يطلب إثباتاً على المرأة والأم المناضلة، إنه يصنفهن وأحياناً قد يستثني أولى المناضلات وهي الأم. مع أنها أول من حرمت من الحصول على مقومات العيش، وأول من حرمت من حق الرد وأول من أجبرت على الاستمرار أو الرضوخ مخدرة بأمل المستقبل. إنه لمن القسوة أن تعيش نفس بشرية كثيرة العاطفة هكذا في استمرار! ولا تجد حتى الآن إلى الشعور بالاستقرار سبيلاً! إنه يبدو غشّاً عندما تعوّل أم على ابنها بفعل ما يغرسه المجتمع في نفسها، فإما تجد نفسها وحيدة وإما تظل متمسكة بآمال! وبرغم أنها قد لا تنتظر هذا الكلام لأنها تعيه أكثر منا، فهي صاحبة التجربة، إلا أنني بتُّ أحاول رؤية الأمور من نفس الزاوية التي هي فيها. أي أنني لا أملك الآن سوى شعوري تجاهك لأقدمه لك في عيد الأم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم