السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

نصّ بليد لصباح بارد

نهيد درجاني
نصّ بليد لصباح بارد
نصّ بليد لصباح بارد
A+ A-

ينتابني جوعُ القناطرِ والسقفِ المعقودِ والبابِ المشلّع الذي أضاع القفلَ من بين عينيه، يجلس قبالتي الفراغ ، كالنّبلاء يلفّ ساقاً فوق ساق، ينفخُ سيكارته كيلا ينعس الهواء، يخبرني كيف التقى بآلامه للمرّة الأولى، وكيف وقّع عقود نكاحها دفعةً واحدة، لكنَّ بكارتَها كانت من مطّاط، فأنجبتْ له عدماً صغيراً لا بالَ ولا غاطَ كيلا يَفسُدَ عليه ملحُ ذكورته .

جُلّ ما أطمحُ اليه ألاّ تخرجَ النافذةُ من ثيابها، لم أخِطْ ستاراتٍ لنوافذِ قلبي العاجزِ عن رؤية ستارة تدخّن غليوناً من الورد البرّيّ بعد الظهر. طالما عشقتُ النوافذَ بفساتين السهرة السوداء، وقبّعاتِ الملكات اللواتي نسينَ تيجانَ أجسادهنّ على السرير ليلة البارحة.

لم أطبقْ فمي مرّة، دائماً كنت أخاف أن تصل ابتسامةٌ من معاجين أسنانها ولا تجدُني،

أخبرتني المراكبُ أنّ الميناء كان خالياً، لا مناديلَ لاحتْ، ولا أرصفةَ أوشكتْ بالبكاء، وأخبرني القبطان عن قراصنةٍ انقطعتْ أخبارُهم، عن صيّادين متعَبين، عن أسماك برموشٍ وأجفان تفتحُها، تُغلقُها كيلا يضجرَ البحرُ .

أخبرتني الطائرات عن مطبّات هوائيّة عبّدوها بآهات المعدَمين،

كيلا تهتزَّ كأسٌ ولا يهبطَ قلب .

أيّتها الكنبَة الخائنةُ، كمشْتُكِ، بالرّيح المشهودة الخارجة من قفاوات الغرباء .

أيّتها اللغة الثرثارة، ابتعدي عن بُنِّ كآبتي المحروق .

أيّها النصُّ اللعين، كيف تكتبُ ما تشافهناه ذات صباح بليد، تقصّه، تلصقه، تنشره على شبكات التواصل العموميّة كفضيحة عاجلة .

أيّها الكاتب اللعين، تلك الثالولة بين أصابعِك، لن تُشغلَ بالاً، تلك الدّرنةُ بين ساقيك، لن تبدّلَ مزاجَ امرأة، اصطفلْ لوحدك، ودبِّرْ رأسَ قلمك كما يحلو لك ،

ما كُتب قد كتب .

أنا لم أخترْ يوماً كلمةً، الحروفُ صغيرةٌ على شراهتي، بي حيرةُ الضَّبان وسميّةُ العقارب،

لذلك ،

أرشقُ الصّفحةَ بحصاة، وأتركُ السّطرَ يأخذ مجراه،

لذلك ،

أكتبُ بتحويلة من الخاصرة، بنبريش من الحلق،

أكتب بالحاسّة الدّنيا من الوعي،

أكتب بالجنون،

أكتب بلا فضلٍ لجملة على جملة إلّا بالجنون،

ما مرَّ عاقلٌ في نصّي إلّا اعتراه الجنون،

ما مرَّتْ عذراءُ في نصّي إلّا اعتراها الجنون،

أنا مصابٌ بفقدان مناعة القصيدة، أنام على كنبة اللغة، وأصحو في مِصحّة الشعر، لا حولَ لي إلّا بالعشق،

ما خرجتُ من حَرَمِهِ إلّا مضرّجاً بالسلاطين،

أحْرِقوا المدن واقفِلوا خلفكم على الرماد، ودعوا شاعراً قبالة الفراغ، ينفخ سيكارة ليشعلَ الكنبة .

فمي مقطوعٌ من عتبةِ بابٍ،

مَنْ في الداخل يسمعُني، أخشُّ لو احتكَّتْ يدي بورقة، أصطاف على قمّةِ كرسيٍّ، وفي الشتاء أحيطُ بالكنبة كيلا تشلِّعَ الريحُ تكاياها، ثروتي شربةُ ماء، وقهوة تبرد تبردُ إلى نهاية النصِّ، لا تلزمني غيمة، لا تلزمني شمس؛

عيناي مقطوعتان من نافذة،

أؤمن بلون واحد، بجدار واحد، بحبّ واحد بكراهيّة واحدة من نظرة واحدة،

كلُّ عُضوٍ شوهِدَ منكِ أنكرُهُ، أنا في الوعي كفيفٌ، تجرّني عصاكِ في هذه العتمة، أعترفُ بنومِكِ، بنومي، بأحلامِكِ، بأحلامي، بهذيانكِ، بهذياني، أترك ما يخرج من الزجاج لعشّاق جددٍ، يأتون، يكملون، ما خلناه تاماً من الحواسّ؛

يداي مقطوعتان من منتصف خاصرتيكِ،

أكمِلي هذا النصّ

كلُّ الطّباقِ ملائكةٌ

كلُّ الجِناسِ جانُ،

وعطرُ الكونِ يندلقُ، كأنّ لا طقساً يُزهرُ إلّا من شياطين يديكِ .

أَطلِعي روحي من هذا النصّ البطيء، لديكِ ما يكفي من الجمر، لتلتهبَ رئةُ الإيقاع،

لينوصَ كابتلاع مسافةٍ بين كلمتين .

أعطِني حمّالةَ صدرِ اللغةِ عن قواميس نهديكِ، لأخرجَ ملكاً من هذا النصّ الرديء،

فقدْتُ كلَّ أملاحِ الكتابةِ، ولم تسعفْني ذكورتي على امتنانِك،

أنتِ المَحظيَّةُ في هذا الإيوان، يحدِّدُ النواطيرُ لحظة دخولك كحمامةٍ بيضاء،

وانا الحَظِيُّ في نقْشِ هديلِك على القباب .

أعطني القربةَ كيلا تُشتَقَّ أسماءُ النساءِ من عطشي،

أعطِني راءَ البيّاتِ كيلا يعرفوا ما فعلَ لسانُكِ بفمي،

أعطني كوفيّتي كيلا يتبخّرَ جسدُكِ من ذاكرتي،

أعطني عباءتي لأخرج من هذا النصّ بسلام

أخافُ أنْ تحشرَ امرأةٌ ساقيها في نصّي الرذيل أثناء غيابِك،

أخافُ انْ تحبلَ بي قُبّرةٌ وتعشِّشَ بين أصابعي،

لي بعضُ الوقتِ لأصلَ إلى خصرِ القصيدة،

وبعضُ الوقتِ لأعودَ إلى رَحَمِ الكتابة،

ربّتي على رفشِ كتفي لابتلع لقمةَ الصِّياغة،

وافِني إلى ردهةِ النصّ

أوصدي بابَ الشِّعر خلفي

إلى الأبد

لم تبقَ في دواخلي رغباتٌ لأضيفَ شيئاً،

كلُّ الهواءِ الذي تنشّقْتُه لا يساوي خطّاً من أفيون الكتابة البيضاء،

كلُّ النساءِ اللواتي مررْنَ حول جسدي كنَّ شالاتٍ مطرزّةً بشناشيلِ الوقت،

كلُّ الانتصاراتِ التي أقمْتُ أقواسَ نصرِها، ابتلعتْ لساني كقطٍّ كسول،

أنا حيٌ على صوصٍ ونقطة، وحياتي واقفةٌ على قشرةِ موز، وميتٌ قيد التنفيذ،

ما همَّني مَن أحرقَ صيدا، ولا كيف لفظتْ جبيلُ نفاياتِ اللغة على الشاطىء البعيد،

ما همّني من المحتلّ الآتي بعد الآتي الذي أتى ثمّ ضجرَ ثمّ عاد وأتى من جديد،

لم تبقَ في حقائبي ورقةٌ أكتبُ عليها وداعاً للرأسِ للمُخِّ للمُخيخِ للنافوخ للمخيّلة لمفْرِقِ الشَّعرِ للسّالفِ ناطورِ مفاتيح الخدّين،

لم تبقَ بيدي حيلةٌ لأُخرجَ عِثاً من خزامى جسدي،

خذوني على قدِّ عقلي،

وقعتُ شَكّاً على رأسِ رعونتي،

أكلْتُ كفّاً من الجنون على نيّة العقلاء،

مذذاك أعضُّ الترابَ، وأقضم الندمَ كلّما طالَتْ أظافري .

لم يعد في دواخلي رغباتٌ لإضافة يوم في قصائدي

ارحمْني أيّها الشِّعر .

************

حكاية نصّ

كان الورقُ دمعَ الأشجار، ولم يكن في كفي حبرٌ، وكنتِ تتركين أثراً على جسدي أقتفيه كلغةٍ غَلَّ في أرجائها التعبُ.

المساءُ مسقِطُ شِعري، وإلّا كيف تلفظُ قصائدي أنفاسَها وتصير نصّاً،

أنا المدمن موتي، أرتّب جنازة كلماتي بنعيٍ علنيّ، بفستان يليق بلغة الحداء، بانشقاقِك عن خطّ سير نعشي، باستئصالك عاشقةً من بين الحزانى في صمتي،

لا تدحرجي الحجر عن تَلَفِ أعصابي، ولا تُقسمي على إقفال جسدِك بالدمعِ الأحمر .

سأكون بكِ، وأنت تمرّرين أيّام العدّة، وأنت تخلعين ثوب الحداد وأنت ترتدينه من جديد،

سأنهشكِ بعد كلّ مخرج صوتيّ

سترسمين لحنجرتي ودياناً

أنا المنقول إلى الجحيم على حمّالة صدركِ، قالوا: لم أقتتْ حليباً كافياً لرميي في مِكبٍّ بعيد،

لم أستشرْ راهبة عن طول ورديّة،

لم أتركْ عضّةً في ملاءتي من غير دليل؛

أنا الطاعون، ناصبُ أشراك الجرذان، أمدّ العابرين بالصوت كجرس الفحل، فلا يفلت الجبل من وبائي، أنقله كالشّاهين للورقِ المصابِ بالغيمِ،

ما سقطتْ ورقةٌ إلاّ لنعيِ شاعرٍ، كلُّ الشعراء مصابون بالذبول،

لا أؤمن بشعر المراعي، بشعراء الشمس وشمّ النسيم،

أيّتها العاصفة، شلّعي جسدي كلغةٍ غَلَّ فيها قرفُ العالم .

لا تكنْ لبِقاً أيّها الشِّعر،

لا أعرف عن الحبق إلّا ما قالته أمّي،

لا أعرف عن النساء إلّا ما لم تقلْهُ أمّي،

كنْ مخرشماً،

كلُّ التبغِ الذي شتلناه دخَّنْتُهُ بقصيدة واحدة،

كلُّ عدادين المياه التي بلَّتْ فمَ الفجر، شربْتُها بدمعة واحدة،

لا تكنْ سيّدا أيّها الشِّعرُ،

البرابرةُ في قلاعي صِبيةٌ تنمو،

سلختُ جلدَ الشاةِ، وأطعمتُ الذئاب، لم تَلِقْ بي لحيةٌ فتركتُ الندوبَ في وجهي تبتسمُ،

هذه غمّازاتُ دمعي في شبه جزيرة فَكّي،

لا تبتسمْ أيّها الشّعرُ

لو لم تفعلْها،

لو تعلم كم هي مملَّةُ وظيفة الحياة حين تبدأ بلملمة روحكَ من بين الكلمات،

لو تعلم كيف تخنشلُ في هشيمكَ فضلاتُ العمر :

هذا جرحُ المرارة، هذا للصّداع، ذاك لضغط الدم، ذلك للمحافظة على بقايا القلب،

ضعْ أسماءَ الاشارة في علبة واحدة، ولامَ الجرِّ في وصفة واحدة، كيلا تختلطَ عليك جرعةُ الكآبة،

ضعْ كوبا من النوم بمتناول كوابيس وعيك،

للشِّعر صندوقةُ عدّةٍ: براغي لتثبيت عظمِ الجمجمة، منشارٌ لقطع يد الشجرة، شاكوشٌ لطرق الأبواب، للشّعر مطرقةٌ،

حذار،

ضعْ خوذةً حين تقرأ،

حذار،

لا تحملْ حجرَ صوّانٍ بين أصابعكَ حين تكتب، آلافُ القصائدِ تحترقُ لو تأوّهتْ قارئةٌ تحت مرأى عينيك،

لو لم تقترفْني أيّها الشِّعر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم