كتابٌ أضاعَ رَسْمَهُ

نجم الدين خلف الله

أنا كِتابٌ مطبوعٌ. تاه معْنايَ بين رُفوف "الرئاسة" واجتماعات "اللِّجان". ألَّفني صاحبي، الـمُكلَّف السابق بتحرير خطابات "القائد"، في أوقات الفراغ، كلما سمح له مديرُ الديوان بعُطلة قصيرةٍ، أثناء زيارات الرئيس الرسمية. صَدَرْتُ، ولكن في طبعةٍ مُبْتَسرة، بعدما حقَّقَتْ فِـيَّ كلُّ أجهزة الدولة، فأمضيتُ بين رفوفها وأقبيتها أكثر من أربع سنواتٍ.

في قاعة الاجتماعات السرِّية للقَصر الرئاسي، اختلف حَولي أعضاء اللجنة وتباينت الآراء. عُقدت بشأني جلساتٌ وجلسات. أُجِّل بَعضها، واختُصِر بعضُها الآخر بقُدرة قادرٍ. في الاجتماع الأخير، احتدَّ جدلُ الأعضاء فلم يُرسوا على برٍّ. ما زالوا يتهيَّبون قلمَ صاحبي مع أنه نُقِل إلى مديرية "العقارات"، في كنايةٍ بائسة عن فَصله من العمل في قسم تحرير الرئاسة؟ كنتُ آنذاك حِزمةَ أوراقٍ قابعةً على مَكتب اللجنة، يَتناثَرُ حولي لغطُهم. تساءلتُ: عَمَّ يتجادلون؟ حول جنس الكلام الذي أنتمي إليه أم حول "هفوة" صاحبي حين خانَه التعبير يومًا، فغُضب عليه ونُفِيَ من جَنَّتِهم؟

تتعالى الأصواتُ: "لو اعتَبرنا المخطوط روايةً، لكانت مُفكّكةً جدًّا. ثمةَ حلقات ناقِصة. لا حِبكة تَحكمُ منطق الأحداث. لو كان محاولة فكريةً، لأعوزتها الأصالة والتماسك. كلامٌ حول "الأنْسجة" على مشارف الغرائبيَّة. لا علاقة له بالتحليل السياسي. لكنْ كلُّ تأويلاته تُحيل على مقام الرئاسة. وهذا خطير. والأخطر سِحر جُمَله وإيحائيتها". بعد أخذ وردٍّ، أصدرت اللجنة قرارًا يسمح بطبع الكتاب مع توصية رسمية: "يُنشَرُ الكتاب في نسخٍ محدودةٍ. يُمنع تسويقه والترويج له. يَقتصر توزيعه على المكتبات الجهوية والمحلية". كانت اللجنة ماكرةً. تعلم أنْ لا أحدَ سيطلع عليَّ هناكَ وأنَّ أحدَ التأويلات الممكنة يجعل منّي "مُناشدةً ذكيَّة للقائد حتى يواصل مسيرة التغيير". ولهذا وافَقَتْ.

وللحصول على رقم الإيداع، أُرسِلتْ نُسختي-الصِّفر إلى "المصلحة القانونية"، وهي أيضًا كناية مَفضوحة عن "قسم الرقابة" في وزارة الثقافة. بقيتُ هنالكَ شهريْن. المدير غائبٌ. طالعني مُوظفٌ مُشرف على سنِّ التقاعد. شكَّ في قُدرته على فهم فُصولي وأسلوبي. يبدو أنَّ ذوقَه كلاسيكي. "لن يُحرِّكني ما يُسمى: "أساليب الحداثة التفكيكية". هذه مجرَّد بهلوانيات". تقفزُ كلمة "حداثة"، في خاطره، كأنها عفريت. كان الأسلوب التي صِيغ فِيه نَصي خاطفًا مُربكًا. تدلُّ كلماتي على المعنى وعلى عكسِهِ. تُحيل مَقاطعي على الفكرة وعلى نَقيضها. التراكيب النحوية فيَّ مستقيمة ولكنّ دلالتها مُستعصية. تقفز الأفكار بين السطور وتستدعي أشياء متباعدة. يَستحيل الإمساك بغايتي ورسالتي. ارتاب الموظف في اتِّساق نَصِّي قدرَ ما ارتاب في قدرته على فَهم هذا النوع من "بهلوانيات الحداثة". لكنَّه آثر الصّمتَ. تعمل مصلحتُهُ تحت النظر المباشر "للرئاسَة". ما دامت لجنتُها قد سَمحت بإصداري، فقد حُسِمَ الموضوع. الأسلمُ تحريرُ محضر موافقة، مع توصية جديدة بالطبع في عدد محدودٍ، طبقًا للتعليمات الأولى.

اقرأ للكاتب أيضاً: لا رسائلَ على شاشة الهاتف

بعد أشهرٍ، تَسلَّم صاحبي القَرارَ، ومعه أنا وقد دُوِّنَتْ على هوامشي ملاحظات. يقتضي الإجراء أن يُعاد النصُّ، كما هو، إلى "مُديريَّة النشر"، وهي كناية مستهلكة عن قسم الرقابة الفعلي، التابع لتحرير الرئاسة، والذي اشتغل فيه صاحبي قبلَ هَفوته. تَملك هذه المديرية حق التعديل، إضافةً وحذفًا وتغييراً، لأي نصٍّ يردها، حسبَ ما تقتضيه "المصلحة العليا للوطن". "إذ المهم، يا شباب، أن يَكون الأدب والفكر في خدمة تطلعاتِ القائد".

من الغد، رَمى بي صاحبي، حزمةً مرقونةً، على المقعد الخلفي لسيارته وبجانبي قرارَ اللجنة وتوصيتَها. انطلقَ بسرعة في اتجاه مديرية النشر، حتى يُدركَها قبل إغلاق أبوابِها. تردد لحظاتٍ. وفي تردده ذاكَ، أسقط مني صفحاتٍ لم أتبين عدَدَها ساعتئذٍ. سلَّمني إلى أحد الموظفين نصًّا ناقِصًا. وبعد عودته إلى السيارة، ابتسم أمام تلك الصفحات المنسية وقد تكوَّمتْ قُربَ علبةٍ فارغة وبقايَا ساندويتش.

لم يعد بإمكانه العودة إلى المديرية وتسليم الصفحات إليها يدًا لِيَدٍ. يستحيلُ إرسالُها عبر البريد. طلبُ موعدٍ آخَرَ يعني انتظارَ شهور طويلة، كما لو كان سيقدم كتابًا جديدًا. الأدهى أنَّ أرقامها لم تكن واضحةً كفايةً. فقد انفسخَ حِبْرها فَانطمست الأعدادُ. لم يعد صاحبي يتذَكَّر مواقع الأوراق الساقطة، إلا تخمينًا ومجازفةً. قرَّر تركي على حالتي تلك. وأظنه فَعلَ ما فَعل عن قصدٍ وسوء نيةٍ. لا أدري كيف أُفَسِّرُ تَردُّدَه. مواقفه كناياتٌ تُعجِزُني حقيقتُها.

اقرأ أيضاً للكاتب: وصَدَح المزمار بعدَ الثورة... "الآن سأجاهد في سبيل الله والشهادة عُرسي"

رأيتُني جاثمًا فوق طاولةٍ في مديرية النشر. هي عبارة عن بناءٍ قديم ملحقٍ بالرئاسة. أثاثها لم يتغيَّر من عقودٍ. اتَّصلت الوَرقاتُ الناقصة بالمسؤول عنها في محاولة منها لِضَمِّها إلى أخواتها. ناشَدَتْهُ: "اقرأوا المخطوط بِأنفسكم. لن يستقيم المعنى دوني إرجاعي لأصلي". أجابها المسؤول: "قَرأناه مرارًا. المعنى فيه مستقيمٌ ولا يقبل التأويل. هذا الكتاب أجْمل مناشدة لفخامَة الرئيس. سُنعيد فقط صياغة بعض جُمله وفقراتِه حتى لا يحتَمِل إلا هذا المعنى. لا حاجَةَ لنا بأوراقٍ تهدد تماسُكه". في الجهة المقابِلة لـِمَكتَبه، جلس ثلاثة موظفين إلى حواسيبهم. يشتغلون على "إعادة تحرير" المخطوط. أياديهم نَشِطةٌ، تلتهمها الرغبة. "مهمتهم: رفع الالتباس عن بعض الجُمل حتى يكون الموضوع نداءً صادقًا للقائد، يوجِّهُه شعبٌ متلاحمٌ، كنسيج واحدٍ".

فُرِغَ من طَبعي بعد شهورٍ من التحويرات. صَدَرَت مني أربعمُئة نسخة تقريبًا بعدَد المكتبات العمومية في البلاد. في البداية، أودِعَتْ نسخةٌ في المكتبة الوطنية. بقيت في الكرتون أشهرًا في انتظار التصنيف. لم يتفق الموظفون على إدراجي ضمن فئة فكرية معيّنة. كانت لوحة غلافي قاتمة بِعنوان غامض. تلاعب صاحبي بسجلات القول داخِلي ولم يشدني لحقلٍ مُحددٍ. مثلَ يتيمٍ، تنازعتني الأجناس والأساليب ولا سيما بعد كل التحويرات التي طالتني.

مديرةُ قسم التبويب والتوثيق امرأة مُسالمةٌ. يومَها، جاءت متأخرةً. تَتَأفّف من شدة الحرّ، ومن زحمة الطريق وتدهور الذائقة العامة. دخلتْ مكتَبها ببطء، لا تتوقف عن التأفف. قَضت نصف ساعةٍ في توضيب الأعداد الأخيرة من "توجيهات الرئيس" (حَرَّرَ صاحبي بَعْضَها. تُصدر الوزارة ما يتجمع منها كلَّ ستّة أشهر). نادت زميلتَيْها. حَمَلتا رزمةً من الكتب، كنتُ بينَـها، وقد اكتسيتُ دفتيْن ولوحة غلافٍ سميكة. "أين نُدْرِجه؟" "يَتم التصنيف حسب العُنوان وحسب ما كُتِبَ تَحته". "أنْسجِة". هل هذه عَتَبَة أم تضليل للقارئ؟ انظري في الفَهرس؟ "أسماءُ أعيانٍ ورموز وتواريخ. يستحيل التَبويبُ". "في هذه الحالة، نُؤَجِّله إلى أن تفصلَ الوزارة فيه. مُراسَلة الوزير هي المرجع الفصل". هل لعبَ اسمُ صاحبي دورًا ما في هذا الارتباك

في انتظار مصيري على رفوف المكتبة، بين غُبارٍ ونسيانٍ، قرّرتُ أنْ أطَّلع على الفهرس. أظنني أوّل كتابٍ يَجرأ على انتهاك حُرمة فَهرَسه. عناوينُ فصولي غير متناسبة: أسماء أعيان ورموز وتواريخ. لم أمْسك بخيطها الناظم. عُدتُ إلى "التصدير" ربما أجِدُ فيه عتبةً تساعدني على الفهم. لم أتَمَكَّن من حَصر موضوعه. قرأت فقراتٍ اخترتُها صدفةً. بدا لي الأسلوب إيحائيًا لكنْ غير متجانسٍ. بَيْدَ أني كتابٌ مطبوع. مما يؤكد أنني ذو موضوع. وعليَّ أن أمسكَ به.

خطرت لي فكرة البحث عن صفحاتي الساقطة لإعادة دَمجها في مكانها منّي، متمنيًا أن ينهضَ جنسي بوضوح فيقومَ معنايَ بين مَراتب البيان. رُحت إلى بيتِ صاحبي أفتِّش بين الملفات والمطويات. أستبعدُ أن يكون تَخَلَّصَ منها في سلة المهملات. أين تراه أخفاها؟ لم تكن ابتسامَتُهُ حين رماني على المقعد بريئةً. ظللتُ أتتبع رائحةَ الحبر الأسود الذي طُبعت به نسختي- الصفر وأتشمَّمها بين الرفوف. هي آخر ما تبقَّى في ذاكرتي من الروائح. بعد دقائق، انجذبتُ إلى ملفٍّ أحمر يقبع فوق خِزانةٍ. الأوراق بين دَفَّتَيْهِ. ناديتُها بلطفٍ حينما تأكدّتُ من انتمائها إليَّ. سألتها عما تنطوي عليه، ثلاثتُها، من الأسرار.

"أولاً، نحن عشرُ ورقاتٍ، لا ثلاثًا. أسْقَطنا صاحبُنا عمدًا، لا سهوًا. أراد أن ينتقد عَبرنا نظامَ "القائد". جَبُن في النهاية فَتراجَع عن نَشرنا. بقيّة المخطوط، دوننا، كناياتٌ بائسة، يُلمِّح عبْرها إلى وضعية البلاد. خانته العبارة وخذَلَه الأسلوب. فكتب كلاما يحتمل تأويلين متناقضيْن. لم يجد أفضل من صورة "الأنسجة". في البلد، على كلِّ فردٍ أن يَنْضَمَّ لِشَبيهه، أن يُرَصَّ بجانبه. كالخُيوط المشدودة: مَن يَرتَخِ يُمزَّقْ. تعني هذه الصورة أيضًا التفاف الشعب خلف قائده. أرأيت كيفَ صاغَنَا بمكرِ الغموض، ثمَّ وَقَعَ في فخِّه.

أسْقَطَنا على أرضية السيارة، بين بَقايا السندويشات والعُلَب الفارغة، حتى لا تمتدّ إلينا أيدي اللجنة وعيونها. بدوني تُصبحُ، أنتَ، مجردَ دراسة عن أنسجة المجتمع، مع مقارناتٍ بالعصر العباسيّ. طبعًا هذه أيضًا استعارة باردة، يقْصِد بها عصرُنا ومجتمعنا. البلدُ كله كناياتٌ. لا حقيقة له. ضُمَّنا إليك، احِذِفْ تعديلات لجنة النشر، وأعِدْ صياغة بعض الفقرات فيكَ، حتى نكونَ هفوتَه الكبرى. نريده أن يستحقَّ عَليْنا القتلَ لا الفَصلَ.

nejmid@gmail.com