الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

أعترف أن الحقيقة في لبنان ليست حرّة وأن الحرّية ليست حقيقية

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
أعترف أن الحقيقة في لبنان ليست حرّة وأن الحرّية ليست حقيقية
أعترف أن الحقيقة في لبنان ليست حرّة وأن الحرّية ليست حقيقية
A+ A-

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي "مرّ مرور الكرام"، قبل وقتٍ سابقٍ من هذا العام (3 أيار من كلّ سنة بحسب الأونيسكو)، تلقيتُ هذه البطاقة، أنشرها مرفقةً مع هذا المقال، وعلى "وجهها" هذه الجملة المشرقة، العظيمة، بل القاتلة، بل المحيية، للشاعر الفرنسي جاك بريفير: "حين لا تكون الحقيقة حرّة، لا تكون الحرية حقيقية".



انطلاقاً من هذه الجملة، أطرح على نفسي، على نفسي فحسب، وفقط، وعلى مَن يريد من القرّاء (والمسؤولين؟!)، السؤال الآتي: هل الحقيقة حرّة، في لبنان، لكي أتمكّن أنا المواطن اللبنانيّ، من الجهر بها، ناصعةً، جَسورةً، وقحةً، عاريةً، وكما خَلَقْتَها يا ربّ؟

جوابي، الذي أجهر به، بلا تردّد، هو الآتي: لا. ليست الحقيقة حرّةً في لبنان، كي أتمكّن – أو أجرؤ – أنا المواطن اللبناني، الصحافيّ، العاديّ جداً، الجهر بها.

لماذا ليست الحقيقة حرّة، مع أنها مذكورة في الدستور، وفي مقدمته الشهيرة؟

لأن الكلام النظريّ شيء، والواقع شيءٌ آخر.

ولأن الجهر بالحقيقة الحرّة، ثمنُهُ في رأيي المتواضع، وفي الأدلّة والشواهد، التعرّض للذلّ والإهانة والإرهاب والترهيب والتخويف والسجن والشرحطة والبهدلة، وربما القتل.

أتحدّث حصراً عن الجهر بالحقيقة، لا عن الشتائم والمسبّات والعربدات اللفظية الخالية من الأخلاق، والمتعدّية على الكرامات.

لذا، واعياً هذا "الواقع"، أزعم أني أقول الحقيقة (ما أعتقد أنه حقيقة)، لكنْ فقط بطريقةٍ موارِبة، ملتبسة، مخفّفة، مدجّنة، مراعية، "مهذّبة"، كي لا أذوق الأمرّين، وذلك على رغم كلّ ما يقال في هذا الشأن، من أن الواحد منا، في كتاباته ومواقفه وآرائه واستنتاجاته، وخصوصاً الوطنية والسياسية والمجتمعية واللاطائفية واللامذهبية، يتخطى حدوده، و"يتخّنها" على الحكّام والمسؤولين، أو المتحاصصين، أو الناهبين، أو الفاسدين، أو الفاسقين، أو المتسلّطين، أو الطائفيين المذهبيين، أو سارقي السيادة والكرامة.

كيف يكون الكاتب "يتخّنها"، إذا كان، هو، في قرارته، يعتبر أنه لا يقول الحقيقة الحرّة، في هذه الشؤون المذكورة أعلاه، لأنه "يخاف" أن يقولها بعريها الصريح؟

شخصياً، "أخاف" أن أقول كلّ الحقيقة التي أؤمن بها، أو التي أعتقد أنها حقيقة.

لماذا "أخاف"؟

أنا "أخاف" لأن القضاء السيّد الحرّ المستقلّ لا يستطيع في أحيانٍ كثيرة، ولأسبابٍ شتّى، أن يكون القضاء السيّد الحرّ المستقلّ، وأن يحمي حريتي، وأن "يخوّف" مَن تسوّل له نفسه أن يمدّ يده إليها.

و"أخاف"، لأن حريتي المحصّنة بالقانون، ليست عملانياً محصّنة بالقانون.

و"أخاف"، لأن أهل السلطة والمال والسلاح قادرون، بشتّى الطرق، على تجيير هذا القانون لصالحهم، الأمر الذي يجعلني "أتردّد" في قول الحقيقة الحرّة الكاملة.

في هذه الأحوال، كيف، يا ترى، تكون الحرية التي أمارسها، كيف تكون حقيقية؟

لا يمكن أن تكون حقيقية. لا يمكن أن تكون هي الحرية.

بل مستحيل أن تكون.

الحرية التي أمارسها، ليست هي الحرية الحقيقية.

هي مسخ الحرية.

هي وليدها المشوّه، الناقص، المبتور.

وهنا، "لا أخاف" أن أعترف بهذه الحقيقة، بحقيقة أن الحرية مسخٌ في لبنان، أمام رئيس البلاد، وأمام المسؤولين كافةً، وخصوصاً منهم الذين يعتبرون أنفسهم حرّاس هذه الحرية.

يؤلمني، ويجعلني أشعر بالعار، قول جاك بريفير هذا، لأنه يعبّر تماماً وجدّاً وعميقاً، عن "حقيقة" ممارستي لـ"الحرية" في لبنان.

الحقيقة التي أكتبها، أعي تماماً أنها حقيقةٌ ناقصة، مشوّهة، جزئية، ملطّفة، مقلّمة الأظفار، مقتَلَعة الأسنان، وبلا فاعليّة.

... هذا، على رغم ما يقال من أن ما أكتبه ينطوي على جسارة و"وقاحة".

يشعر مواطنون كثر بالإحباط، لأن جهرهم بالحقيقة، لا يفضي إلى نتيجة، ولا يغيّر المعادلات الوطنية والسياسية والقيمية القائمة.

لكنْ، لهذا السبب بالذات، يجب أن أقول إن الإحباط ممنوع.

وحده التدرّب على الجهر بالحرية، هو الطريق الوحيد إلى الحرية الحقيقية وإلى الحقيقة الحرّة.

لذا، يجب العمل في لبنان، وبدأب، وبلا هوادة، وبنَفَس طويل، وبصبر، وأناة، على صناعة "النخب البديلة"، وعلى توليدها، واختراعها، وذلك فقط من أجل أن تكون الحقيقة حرّة، ومن أجل أن تكون الحرية حقيقية!

وإنمّا هذا كلّه، أقوله من أجل لبنان.

وأنا أقوله خصوصاً لمَن يتبجّح بالحرية، وهو ينضمّ إلى مَن يشوّهها. وأقوله لمَن يحبّ أن يبوّس اللحى، ويوارب، ويتنكّر. يتنكر لهذه الحقيقة ولتلك الحرية.

[email protected]


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم