الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

كانّ 70 - "سيدة رقيقة" لسرغي لوزنيتسا: الحياة ولا شيء آخر

المصدر: "النهار"
كانّ 70 - "سيدة رقيقة" لسرغي لوزنيتسا: الحياة ولا شيء آخر
كانّ 70 - "سيدة رقيقة" لسرغي لوزنيتسا: الحياة ولا شيء آخر
A+ A-

اكتشفتُ الأوكراني سرغي لوزنيتسا في مهرجان تسالونيك العام ٢٠١١ يوم أقيمت استعادة لأفلامه الوثائقية. لطالما اعتقدتُ أنّه أحد أبرع الذين صوّروا الزمن، وهذا ما تأكد لي أكثر أمس حين شاهدتُ “سيدة رقيقة”، ثالث أفلامه الروائية الطويلة والمعروض في مسابقة الدورة السبعين من #مهرجان_كانّ (١٧-٢٨ الجاري). القصّة، كما في العديد من أفلامه، تُختصر ببعضة سطور: سيدة تريد زيارة زوجها المحكوم بجريمة قتل في سجنه، بعدما أعيد إليها الطرد الذي كانت أرسلته له. إلا أنّ جملة إجراءات وظروف تعترض طريقها وتؤخر اللقاء، فتجد نفسها تتنقل من مكان إلى آخر، ليكون المخرج بذلك أمام واقعية تصوير حكايات هذه الأمكنة.     

للوزنيتسا رؤية خاصة لروسيا تتجلّى هنا بأروع صورة. إنها رؤية منبثقة من إحساسه السينمائي الذي جعل منه مخرجاً كبيراً يجيد تصوير كلّ ما تضعه أمامه. له الفضيلة في جعل الأشياء تنطق شعراً، وبالشعر لا نقصد جماليات البهجة الساذجة، بل التقاط البؤس السينيجيني الذي ينبت في الأراضي القاحلة البعيدة. منذ مشهد الافتتاح، يتكرّس هذا الأسلوب ليمنح الزمن للزمن. لا يوجد الكثير من السينمائيين الذي ينتظرون جلاء الغبار من حقل الصورة بعد مرور الحافلة فيه، قبل الانتقال الى اللقطة التالية. فيلم لوزنيتسا إخراجي في المرتبة الأولى، يتكوّن من أشياء صغيرة، ولكن يا للغرابة، فالصغائر هي التي تبني هذا العالم.

ما يقدّمه هنا هذا الأوكراني هو عالم كاملٌ متكاملٌ، يعرف كيف يلتقط مزيج الفولكلور والرومنطيقية والروح السلافية في بلاد دوستويفسكي. يصعب شرح الفيلم بكلمات متقنة، دقيقة. فهو طريقنا إلى رحلة مفتوحة وتجربة تتكون من انفعالات ولحظات جمال مطلق. إنّه فيلم الضياع، ولكنه ضياع مفيد، “يشرّج” خلاله المرء بطارياته، وإذا لم يجد شيئاً في آخر الطريق، قد يجد نفسه. كما يقول جيم جارموش: "من الصعب أن تتيه عندما لا تعرف أين تذهب”!

مع لوزنيتسا نشعر بالمكان والزمان. قد يكون فيلمه “الملحمي” هذا الذي يبلغ طوله ساعتين و٢٣ دقيقة، من أكثر الأفلام التي لم أرَ فيه مغالاة على مستوى الطول. فهذه التي أمام كاميرا لوزنيتسا روسيا، وما أدراك ما هي، روسيا عندما تقع في شراك مخرج كبير، أكان ميخالكوف أم غيرمان أم لوزنيتسا.

شخصيات، كلام ولحظات فرح مشبّعة بالكحول، رغم المآسي والماضي وسوء الطالع. إنّها الحياة ولا شيء آخر (عنوان فيلم لبرتران تافيرنييه)، مع عابرين في الكادر يمضون إلى جهة مجهولة. يعرف لوزنيتسا كيف يجمّد الزمن لحظة لقائنا بهؤلاء، ليصبح اللقاء أهم ما في الدنيا، بالرغم من أنّهم، نكرّر، عابرو سبيل.

وسط هذا، ثمة سيدتنا الرقيقة الناعمة. إنّها العين الخارجية على روسيا، ناسها، بؤسها، طغاتها، وأولئك الذين يثرثرون كثيراً، أو الذين يصمتون ويتلقون الضربات تلو الضربات… ثم هناك ذلك المشهد الفيلّليني الذي يدوم ويدوم، قبل أن نعلم أنّه لم يكن سوى ثانية. نعم، الأحلام ثوانٍ. والكوابيس أيضاً.

يسخر لوزنيتسا من كلّ شيء، ضمنياً. بنبل شديد ودهاء في صرف النظر عن نياته لتضليل المُشاهد. فيلمه هذا يحفل بالتضاد: القبح والجمال، اللهو والملل، ناس لا يملكون شيئاً وآخرون في يدهم السلطة والقيادة. وينهي فيلمه مع ناس لا يثير فيهم هذا كله إلا الرغبة في سبات عميق. لم يكن ينقص لوزنيتسا إلا هذا الفيلم، كي تتكرّس موهبته نهائياً. فيلمه أكبر من الحياة.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم