السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

كانّ 70- بين غودار ورودان: شذرات من سِير ملغومة

المصدر: "النهار"
كانّ 70- بين غودار ورودان: شذرات من سِير ملغومة
كانّ 70- بين غودار ورودان: شذرات من سِير ملغومة
A+ A-

فيلم السيرة يعود إلى #مهرجان_كانّ السبعين (١٧-٢٨ الجاري) من أوسع باب. لا يعني ذلك أنّه كان غائباً في السنوات الأخيرة، ولكن وجود فيلمين عن شخصيتين إشكاليتين تركتا بصمات دامغة على الفنّ في أوروبا، لا بد أن يكون حدثاً استثنائياً ينبغي الالتفات إليه. العمل الأول، وهو “المريع” لميشال أزانافيسيوس (سبق أن أنجز “الفنانّ” العام ٢٠١١)، يطرح فصلاً قصيراً من حياة المخرج جان لوك غودار، أي الفترة الأكثر إشكالية في حياته، في حين يحملنا “رودان” للمخرج الكبير جاك دوايون إلى علاقة النحّات الفرنسي أوغوست رودان بالعمل والجهد والتأمل في واحد من أكثر أفلام المسابقة رصانة وحميمية.  

في حين أطلت شخصية رودان في أفلام عدة، منها “كاميّ كلوديل” لبرونو نويتان، فكان حضور غودار في #السينما أقل بكثير.

الفيلمان استُقبلا بآراء متفاوتة وبعض الفتور، على الرغم من أنّ “رودان” خطف أنفاس بعض الصحافة الفرنسية، فخصصت له مجلة “بوزيتيف” مثلاً غلاف عددها الجديد، علماً أنّه يخرج في الصالات الفرنسية بالتزامن مع عرضه في كانّ. ثمة واقع لا يمكن تجاهله هو أنّ رودان أبعد في الذاكرة مما هو غودار. فصورة المخرج الفرنكو سويسري لا تزال حاضرة في الأذهان، ومن الصعب جداً استبدالها بصورة جديدة من صناعة السينما الراهنة. أضف أنّ غودار في ذاته شخصية سجالية، وسجاله غير مرتبط دائماً بالفنّ، إنما بكل كلمة لفظ بها وصولاً بارتباطاته السياسية والعقائدية التي كانت دائماً محل خلاف حتى مع أقرب المقربين له.



الفيلمان مختلفان جداً في مقاربتهما للسيرة. “المريع”، فيلم ساخر إلى حد كبير، لا يمكن أخذه كوثيقة للاطلاع على غودار. أيا يكن، فغودار في مرحلته الماوية، لا يمكن أخذه نموذجاً لغودار، ومن الخطأ بناء استنتاجات انطلاقاً منها. الفيلم يستمد أسلوبه من هذه الحقيقة. ثم إنّ غودار هنا، خلافاً لرودان هناك، يعبر أزمة إبداعية حادة، مع أنّ الفيلم لا يسمّيها بوضوح. إنّه ممتلئ باليقين ولا يطرح الكثير من التساؤلات، كما الحال عادة في الأفلام البيوغرافية. فهو يجد نفسه في مرحلة تغيير شامل (أيار ٦٨ إلخ)، يبحث ولا يجد السينما التي تليق بهذه الفترة. إذا كانت الشخصية التي يقدّمها أزانافيسيوس (انطلاقاً من مذكّرات آن فيازيمسكي التي مثّلت في أفلام عدة له قبل أن يتزوّجا بارتباط دام ثلاث سنوات)، تبدو ضعيفة مشككة (غودار يغار على زوجته، يحتقر آراء الآخرين، مستفزّ يعلن ما لا يفوز بالإجماع…)، فهذا لأنه عالق في أكثر مراحل حياته ضياعاً، غير قادر على التطلع إلى المستقبل ويفشل في استثمار دروس الماضي.


كتب ناقد عربي أنّ هذا الفيلم فعل ما لم تستطع مجلة “بوزيتيف” فعله طوال نصف قرن، وهو تدمير غودار. في رأيي، هذه قراءة ساذجة لفيلم من قبل مَن ساد لديه اعتقاد بأنّ أحدهم استثمر مالاً ووظّف وقتاً كي يشتم صاحب “بيارو المجنون” أو يحطّ من شأنه. لا مخرج، على الأقل عندما يكون من نوع أزانافيسيوس، يخصص فيلماً لشخصية ليحطّ من شأنها. أرى الفيلم نقيض ذلك. إنّه رد اعتبار ورسالة حبّ، مهما يكن الخطاب الذي يتبنّاه، في النهاية هناك شغف غودار بكل ما ينتجه، وشغف مَن يصوّر هذا الشغف. ولكن هناك، خصوصاً في منطقتنا، مَن اعتاد أن تكون أفلام السِير، دعاية للشخص أو مديحاً لانجازاته، بعيداً من أي مراجعة له، وهي غالباً ما تكون مراجعة للفترة التي عاشت فيها الشخصية.



غودار في “المريع” شخصية ظريفة، تكاد تكون كاريكاتورية في بعض الأحيان (المخرج كان دائماً مقلداً شاطراً في صناعة فيلم “على طريقة فلان الفلاني”)، ولكن ليست منفّرة البتة. إنّه العبقري الذي قرر ألا يفهمه أحد، حتى مَن تشاركه الفراش ليست دائماً معه على موجة واحدة. الفيلم يناقش بهدوء البعض القليل من أفكار غودار السياسية، كل تلك الأفكار التي ألهمته أفلاماً شكّلت بداية القطيعة مع العالم ووضعته في نوع من عزلة. الفيلم هو أيضاً حكاية تلك العزلة، وفقدان الثقة بينه وبين الآخرين، تحضيراً لدخول مرحلة جديدة ستحوّل فنّه إلى الأبد. وهذه الفكرة وجدت تجسيداً كاريكاتورياً لائقاً لها من خلال مشهد النظارات التي تقع من عيني غودار وتُداس غير مرة. غودار ليس غودار من دون نظاراته وبلاغته الكلامية وراديكاليته، وعرف الممثل لوي غاريل كيف يأتي بكلّ هذه التفاصيل الى الشخصية التي يجسّدها. غاريل قفز قفزة كبيرة، لقد نطَّ من محو التمثيل في أدوراه السابقة الى التمثيل الذي يحتاج محو للممثل في هذا الفيلم.


جاك دوايون أكثر حشمةً في تصويره رودان. يذهب في العمق، محاولاً إيجاد لغة يفكّك بها لغز رجل نراه يتكلّم كثيراً عن عمله. يتشارك رودان مع غوادر حقيقة أنّ الإثنين من مصمّمي الأشكال. في مقطع من الفيلم، يقول رودان إنّه شقلب تراتبية المواد. التراتبية الكلاسكية هي: الذهب، البرونز، الحجر، الخشب، الطين. إنّما هو قلبها، واضعاً الطين في الصدارة. في “رودان”، لا تتوقعوا فيلماً جماهيرياً يكرّس صورة للنحات في الثقافة الشعبية، ويبسّط فنّ المعلّم وحياته، ويعرّج على علاقته الشهيرة مع كاميّ كلوديل (يصوّرها من وجهة نظر رودان). لا شيء من هذا كله! نحن في فيلم لدوايون وسيبقى كذلك حتى النهاية. الناتورالية على الطريقة الفرنسية هي الغالبة على كلّ نمط آخر.

يبدأ الفيلم مع بلوغ رودان الأربعين من العمر وبداية الاعتراف به رسمياً كفنان كبير، وإسناده مَهمة نحت رائعته “بوابة الجحيم”، ثم “بالزلك” الذي يختتم الفيلم بمشهد للمنحوتة الضخمة معروضة بالهواء الطلق في اليابان، وهذا أكبر تحية للفنان الذي يُحتفى هذه السنة بمئة عام على رحيله. فنسان لاندون الفائز بجائزة التمثيل هنا قبل سنتين عن دوره في “قانون السوق”، درس النحت أشهراً عدّة قبل وقوفه أمام الكاميرا (ومثله غاريل الذي روى لصحافي أنّه هالته فكرة تجسيد أسطورة كغودار). لا يهتم دوايون إلا برودان وهو ينحت، الباقي تفاصيل مملة في حياته. إنّه رجل يؤمن بالعمل، ومن هنا ديداكتية الفيلم التي وجدها البعض ثقيلة، خصوصاً أنّنا لا نفهم الكثير مما يقال. ثم، ثمة علة الشخصيات الثانوية التي تعبر ديكور نهاية القرن التاسع عشر، لتتمتم بضع كلمات غير واضحة. هؤلاء ليسوا سوى مونيه أو سيزان أو ميرابو. في المقابل، يمكن أن نرفع القبعة لدوايون لأنه لم يُذعن لمتطلبات السوق. أنجز فيلماً يُشبهه ويشبه ما سعى إليه دائماً: الحرية في العمل. المادة، الاصرار على الكمال، الأسلوب… كلّ ما يشكّل عند النحّات بحثاً متواصلاً (بلا جدوى أحياناً)، هو في الحين نفسه صنو المخرج.




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم