السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مجّانيّة الله وحصريّة جماعاته

المصدر: "النهار"
الشدياق يوسف "رامي" فاضل
مجّانيّة الله وحصريّة جماعاته
مجّانيّة الله وحصريّة جماعاته
A+ A-

كُلّما تكلّمنا عن محبّة الله الشاملة وعن خلاصه المجّانيّ، تهبُّ كوكبةٌ من أصوات الذين يعتبرون أنَّ خلاص الله المجّاني والشامل يُزعزِعُ الضمانات الأخلاقيّة في المجتمعات، إذ بحسب رأيهم لا بدَّ من ترسيخ مبدأ "الثواب والعقاب" من أجل التشجيع على الفضيلة ومن أجل ردع القاتل والسارق والزاني عم أفعالهم المشينة. ويبادر البعض إلى الإستنتاج السريع "إذن يمكنني أن أرتكب ما يحلو لي من المعاصي طالما الله سيغفر لي وسَيُخَلِّصني في نهاية المطاف".

ويَغيبُ عن ذهن هذا البعض أن خلاص الله المجّاني يشترط "القبول" من الإنسان، فالله الذي خَلَقَ الإنسان بغير إرادته لن يُخلِّصهُ إلا بإرادته على حدِّ قول القدّيس أغسطينس أسقف عنّابة، حفاظًا على حُرّية الإنسان وحقِّه بتقرير مصيره. غير أنَّ هذا "القبول" لا يتمُّ فقط ضمن تركيبةٍ معينّة أو ضمن جماعةٍ معيّنة فالروح القدس يعمل بطرقٍ خفيّة لا يُدركها العقل، ويهُبُّ حيث يشاء وكيفما يشاء. صحيحٌ أنّه يستقِرُّ ويستريح في الكنيسة، لكنه يعمل في الخلق أجمعين وهو عابرٌ لحدود الدين والعرق منذ أن أسلمه الربّ يسوع المسيح من على الصليب، بعدما أتمّ الخلاص ووهبه للبشريّة جمعاء فانشقَّ حجابُ الهيكل وصارت العبادة بالروح والحقّ.

إذن فالخلاص يتطلّب القبول ولكن لا نستطيع أن نحدِّد "كيفيّة" هذا القبول، وبالطبع فإن ما أسميناه بالقبول ليس مجرّد موافقة ميكانيكيّة نبتاعُ بها منازلًا في السماء، بل هو الموقف الروحيّ والكيانيّ المنفتح على الله وعلى العلاقة معه، والذي ينطلق من اكتشاف محبّة الله للإنسان بشخصِهِ، لأن الله أحبَّنا أولًا على ما يقول الإنجيلي يوحنّا الرسول. هذا الإكتشاف لا بدّ من أن يشكّل المنعطف الأهمّ في حياة الإنسان، لا وبل هو بمثابة الولادة الجديدة إذ أنَّ هذا الحبّ يجدِّدُ الإنسان ويشفيه ويخلقه ويفتح أفاقه على أبعاد المحبّة والجمال ويصالحه مع الله ومع ذاته ومع الخليقة كلّها. حينها يكتشف الإنسان السخافة الكامنة في كلّ ما لا يتَّصِل بهذا النبع السرمديّ، ويكتشف أنّ لا سعادة ولا فرح خارج علاقة الحبّ مع الربّ. فيصبح من المستحيل عليه أن يتصرَّف بما يعاكس شخصيّته التي ارتوت من محبّة الخالق، فتثمر الفضائل وتزدهر الأخلاق ويحيا الوصايا بملئها دون أن يحتاج إلى "فزّاعةٍ" ترغمه على فعل الخير، أو إلى شرطةٍ دينيّة تمنعه عن فعل الشرّ. 

في هذه المحبّة بالذات تكمن كلّ الضمانات الأخلاقيّة التي عجز الجحيم بشياطينه عن فرضها بالتخويف والترهيب، وتكمن أيضًا كلّ الخيور الروحيّة التي عجز الطمع بالسماء عن زرعها في النفوس. في هذه المحبّة يسكُنُ نعيم المؤمن الذي يعيش بحريّة الإبن والذي يكتفي بالحبّ من أجل الحبّ. 

والتاريخ يشهد بأن الأنظمة والدول فشلت في كبح معدّلات الجريمة والعنف باستعمال العنف المضادّ والأساليب العقابيّة، في حين أنَّ الدول التي نجحت بخفض معدَّلات الإجرام هي الدول التي عزَّزت قيم المواطنة، واعتمدت في سجونها على مبدأ "الإصلاح وإعادة التأهيل" ونجحت بخلق العلاقة المتينة مع مواطنيها، مما أسهم بتأكيد حسّ الإنتماء لدى شعبها وبتطوير هذا الحسّ ليشمل البشريّة برمَّتها.

إذن فالإنسانيّة لا تحتاج إلى ترسيخ مبدأ "الثواب والعقاب" بل تحتاج إلى اكتشاف محبّة الله لها وإلى ترجمة هذه المحبّة بين الأفراد، وهي الكفيلة بتحويل الأرض إلى الملكوت!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم