السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

هوامش طرابلسية لمناسبة رحيل الرسّام وجيه نحلة

طلال خواجة
هوامش طرابلسية لمناسبة رحيل الرسّام وجيه نحلة
هوامش طرابلسية لمناسبة رحيل الرسّام وجيه نحلة
A+ A-


لم أكن أعرف عن وجيه نحلة الكثير، والقليل الذي كنت أعرفه عنه هو ما أشترك به مع كثر من اللبنانيين. تسلل وجيه الى عقولنا وذوقنا وحياتنا عبر الكتابات عنه أو المقابلات التي كانت تجرى معه أو تجرى عنه في وسائل الاعلام كافة، وخصوصاً المرئية منها، حيث كانت تعرض خلالها بعض أعماله التي تبهر الناظرين اليها بألوانها وأشكالها وحروفيتها وانطباعياتها، وكان تأثيرها قوياً حتى على المتواضعين بثقافتهم الفنية أمثالي، مع أنني سكنت في شارع جاكوب في باريس الخامسة لسنة كاملة.


الذين يعرفون شارع جاكوب المحتشد بالمعارض الخاصة، يدركون أنه لا مفر، حتى على طالب رياضيات، من اكتساب بعض من ثقافة الفن التشكيلي الذي لا يمكن رصد القفزة الحضارية في أوروبا من الظلام الى الأنوار من دون المرور بمبدعيه على مر القرون، حتى أن تاريخ تطور المدن الإيطالية يكتبه البعض من خلال روائع الأعمال الفنية رسماً ونحتاً وعمارة.
يقول كثر، وأنا منهم، إن العلاقات والتقاطعات بين الرسم (والنحت والعمارة امتدادا) والرياضيات هي الأكثر تشابكاً بين موضوعين، على رغم أن فن الرسم يخاطب الذوق الرفيع والمرهف، حتى من خلال الجداريات الملحمية، بينما تخاطب الرياضيات العقول بمعادلات جافة تشبه تلاطم الامواج العاتية. حتى أن معظم الفنانين ومنهم فناننا الراحل، كما معظم الفلاسفة والمفكرين، كانوا ملمين بحيز معقول من الرياضيات الهندسية والجبر بينما العكس غير صحيح، على رغم نسبة المتذوقين المرتفعة بين جماعة الرياضيات والعلوم عموماً.
هو العقل إذاً، حين يبدع ينحو منحيين، منحى إبداعياً ملحمياً سلاحه الخيال، ومنحى ابداعياً فلسفياً ومعادلاتياً سلاحه المنطق. وكما أن كل الرياضيين ليسوا من وزن العبقري مايكل عطية، فليس كل الفنانين بالطبع من وزن المبدع وجيه نحلة. فوجيه نحلة قادته موهبته وطموحه من موظف في دائرة المساحة براتب مئة ليرة لبنانية الى فنان تشكيلي فريد واستثنائي تحول الى ظاهرة، وخصوصا حين أدخل الارابسك والحروفية لتصبحا موضوعاً رئيسياً من المواضيع الفنية اللبنانية، بعدما احتكرت اللوحات والجداريات والأيقونات ذات الطابع الديني المساحة الفنية. وإذا أضفنا أن وجيه ولد في بيروت من أصول جنوبية وأقام لاحقا في الرابية في بيت جميل تدخل اليه من بوابة متحف، بعد تمكنه المادي وصعوده الخارق، وتنقل فترة طويلة بين باريس والرياض، لأدركنا كنه الخلطة التي شكلت جزءاً من هذه الشخصية الملحمية التي لعبت في الحياة، كما لعبت بالأشكال والالوان، باعثة الروح والجمال والفرح في كل الاتجاهات.
حين أطلقنا مبادرة "جدار بوزار للسلام" على حائط كلية العلوم في القبة في نيسان 2004 كردٍّ رمزي على جدار الفصل العنصري في فلسطين كما وصفته محكمة لاهاي، من ضمن أهداف داخلية أخرى، التفّ حول حركتنا الوليدة عشرات الفنانين من جميع المناطق والأطياف، وخصوصا أنها تلازمت مع الصراع السياسي بين أركان النظام الأمني السوري - اللبناني وحُماته من جهة وبين رفيق الحريري و"فرسان البريستول" من جهة اخرى. وحين فجر موكب الحريري بأكثر من طنين "تي ان تي"، تحول هذا الالتفاف الى تقاطر من الفنانين التشكيليين من شتى المناطق والمدارس والاتجاهات.
كان عدنان خوجة ومحمد عزيزة وعلي العلي وسامي بصبوص والسوري عبد المحسن الخانجي قد أنجزوا جدارياتهم قبل زلزال الاغتيال، وكان فضل زيادة في خضم تحيته الجدارية للشهيد الحريري حين رفعت احدى الصحف العريقة عنوان "بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية" ردا على محاولة سحب المدينة العريقة من الروزنامة الحداثية والسيادية لصالح التقويمين السوري والاسلاموي. لذا كان ترحيبنا استثنائيا بفكرة فضل زيادة للتواصل مع السوبر ستار وجيه نحلة من أجل العمل على الجدار، وخصوصا ان المدينة اصيبت بمس حداثي رداً على الجريمة الإرهابية الرهيبة، ظهر على شكل انتشار الفكرة البوزارية في كل مكان ذي رمزية، ومنها مركز استخبارات مار مارون السيئ السمعة، حتى ان احدى الصحف الطرابلسية كتبت "لقد اصبح لكل قرية بوزارها ولكل شارع جداره"، كما أطلق على المدينة المقاومة بالرسم والتلوين والطلاء شعار "طرابلس مدينة الجداريات".
لم نخف تهيبنا من اللقاء مع الفنان الراحل الذي صمّت سمعته الآذان، وزاد من تهيبنا انه فاز في تلك الفترة بالجائزة عن لقب الفنان الأسرع بالرسم مع الموسيقى في مسابقة جرت في ساحة اللوفر وعزف معه خلالها عبد الرحمن الباشا، كما تناقل لنا عن دوره في جداريات قصر المؤتمرات في الطائف، المنجزة مع المقاول الأسطورة آنذاك الشيخ رفيق الحريري الذي أرسله بصفته كبير رسامي "اوجيه"، في طائرة خاصة ليأتي بألوانه ومواده وما يرغب به من مدينة الفن والضوء والجمال باريس التي شكلت قبلة دائمة للراحل في حله وترحاله، معرجا منها بين وقت وآخر على مدن الروائع الإيطالية.
حصل اللقاء الاول مع وجيه نحلة في "منطقة بوزار" في القبة امام الجدار وفي شارع الجيش (الجامعة) الذي كنا ولا نزال نطمح بأن يشكل صلة الوصل بين عرى المدينة المفككة وبينها وبين اقضيتها المتنوعة، وخصوصا ان المنطقة تشكل تكثيفا لذاكرتنا الأكاديمية والأهلية والمدنية والاجتماعية، اذ فيها زرع الفرنسيون ثكن قياداتهم الانتدابية قبل ان يسلموها بعد الاستقلال إلى الآباء البيض الذين حوّلوها الى مهنية كبيرة وقفت شامخة في قبة النصر إلى جانب مدارس وإرساليات فرنسية وأميركية وأرثوذكسية، قبل ان تنفجر في محيطها الجولات الأولى للحرب الأهلية الشمالية، فيهجرها الآباء وتحتلها لاحقا قوات حافظ أسد الردعية، ثم تبدأ بقضمها كلية العلوم بعد التفريع، من دون ان ننسى أنّ الإنكليز اختاروا المنطقة في النصف الاول من القرن العشرين مكانا هادئا وجميلا ومشرفا لسكن موظفي مصفاة طرابلس وإدارييها، قبل ان تنضم المنطقة لاحقا الى ضواحي البؤس والتخلف والتوتر مع ازدياد النزوح من الريفين الشماليين اللبناني والسوري وانتشار البناء العشوائي الرخيص وتكوّن الكانتون العلوي وتداعياته، وخصوصا مع الإنقضاض السوري على العاصمة الشمالية.
لقد التقط فناننا الراحل نبض "حركة بوزار" المولودة في المنطقة، بالتوازي مع حركة البناء الجامعي في الـ"مون ميشال" من الوهلة الاولى، وخصوصا انه باح لنا بحبه للمدينة التي اطلقت بعض مشايخ النهضة وحركة الفنانين العشرة وروائع الخطاطين والكتاب والشعراء ومنشئي المطابع والصحف والمراكز الثقافية، والتي لا يزال ابناؤها يمتازون بلطف المعشر وحسن الاستقبال على رغم معاناته المضاعفة، حيث أنها شكلت جاذبا لعائلات بيروتية ولبنانية وسورية استوطنت الفيحاء الشمالية من دون قلق أو حذر أو غرابة، مستدركا طبيعة الهزة الحداثية التي يسعى لها مطلقو "حركة بوزار" من هذه المنطقة بالذات، معترفا بأنها تحمل في طياتها نوعا من رومنطيقية ستشكل بالضرورة قوة دفع استثنائية على رغم طابعها المغامر. وقد بدا وجيه نحلة متقدما بذلك على كثير من المثقفين الطرابلسيين، الذين ظنوا أننا مصابون بلوثة يساروية في اختيار المكان، وبعضهم كان قد طالب عن جهل بتغيير الوجهة في اتجاه "المناطق المرتاحة من المدينة التحتا"، أي غرب البولفار.
لكم كان منظرنا طرابلسيا ونحن ملتفون حول وجيه نحلة المتواضع على ترويقة من الفتة والفول والحمّص في مطعم شعبي وطالبي امام "جدار بوزار" الذي اختار منه الفنان الراحل مساحة كبيرة لتنفيذ جدارية أرابسك عمل لها شهورا طوالا، فخرجت من يده تحفة قدمها للمدينة التي احبها وأحب أهلها كثيرا.
في احدى زياراتنا له انا و"شريكي" الراحل مصباح الصمد سألنا عن اسماء عائلتينا الصغيرتين، ولم نكد نرتشف القهوة، حتى أنجز لوحتين بهذه الأسماء على الكاتالوغات التي قدمها لنا والتي احتوت بعض روائعه وطبعت لمناسبة معرض "سبعينه" في الأونيسكو، وكم كان شعورنا رائعا بهذه الهدية التي زادت من حميمية العلاقة ورهافتها مع الرجل الأيقونة.
في احدى مقابلاته التلفزيونية الاخيرة بعد خروجه من احدى "غيباته" المتكررة في المستشفى، سألته المذيعة كيف يستعيد نشاطه عادة بعد كل "غيبة"، فأجابها بأنه يبدأ بتشكيل فترة الغياب اولا ثم يتابع كأن لا انقطاع. وعلى رغم غيابه الجسدي نهائيا، سيبقى مستمرا بيننا سواء عبر أعماله وألوانه وإبداعاته أو عبر فلسفته وثقافته وعبثه الباعث فينا رفعة الذوق وحب الحياة.
وإذا أردنا ان نلخص وجيه نحلة ببضع كلمات، نقول إنه بكل بساطة شكّل مثالا آخر عن قصة نجاح تثبت مرة اخرى أن الخلطة اللبنانية بكل نكهاتها هي التي تتيح لطائر الفينيق ان ينهض دائما على رغم لعنة الموقع وفساد بعض النخب والفئات وأنصاف الآلهة التي تخرج من جوفها ما يزكم الأنوف أحيانا.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم