السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"اسبوع آرتي" دورةً سابعة في بيروت: أوروبا الروسي وروعة التايلاندي وملل الأسوجي!

"اسبوع آرتي" دورةً سابعة في بيروت: أوروبا الروسي وروعة التايلاندي وملل الأسوجي!
"اسبوع آرتي" دورةً سابعة في بيروت: أوروبا الروسي وروعة التايلاندي وملل الأسوجي!
A+ A-

الدورة السابعة من أسبوع أفلام "آرتي" في بيروت بدأت في 16 من الجاري وتستمر إلى 26 منه. 7 أفلام أُنجزت في السنتين الأخيرتين تُعرض في صالة "متروبوليس" خلال هذه الفترة في الثامنة والنصف مساء. مناسبة للجمهور اللبناني كي يكتشف بعض أجمل أفلام تلك السينما التي تحمل بصمات القارة العجوز.


"فرنكوفونيا" للمخرج الروسي الكبير ألكسندر سوكوروف الذي افتُتح به هذا الحدث، كوكتيل من الأفكار والخواطر المرمية في قالب سينمائي يصعب تصنيفه، سواء درامياً أو وثائقياً. عمل هجين يشبه صانعه في امتداد واضح لبعض الأفلام التي قدّمها سابقاً. الفيلم قائم على صنعة، على قصّ ولصق، على حرفة في تركيب حكاية تحمل بصمات صاحب الرباعية الشهيرة عن السلطة والديكتاتورية. يمكن القول ان هذا الفيلم صنعة فريدة في كيفية استرجاع لقطات ومٓشاهد من السينما بالأسود والأبيض وترتيبها في سياق التأويل. نَفَس سوكوروف حاضر، اسلوبه مكثّف، اطلالاته على التاريخ باهرة، وقراءته للواقع الاوروبي تموضعه في مقدمة المثقفين الاوروبيين المتضلعين من الموضوع الذي يبحثون فيه.
الحصة الكبرى من الفيلم ترتكز على العلاقة بين مدير اللوفر والضابط النازي المكلف المحافظة على المقتنيات داخل المتحف الشهير، يوم تمّ نقلها الى أحد القصور في العام 1939. يشهد الحوار بينهما شيئاً من التودد. هناك، ما يفرقّهما وما يجمعهما في آن واحد. انها علاقة خاسر برابح، في مقابل التعلق بالتحف والاصرار على تهريبها الى مكان أكثر أماناً، علماً ان التعميم كان واضحاً بعدم المس بالارث الثقافي الانساني. هذا الجزء من الفيلم مُستعاد درامياً، مع ممثلين، وفيه الزيف الجميل المحبب الذي يجعل هذا الخيار طريفاً كون الحديث هنا عن متحف، اي عن أعمال لا مكان فيها الا للأصيل. فيلم سوكوروف عبارة عن "باتشوورك". انها اجتهادات فكرية تجول وتصول لتخرج العمل عن الاطار التقليدي. هناك الكثير من صور الأرشيف، واهتمام بالغ بالصوت، مع التذكير بأن التعليق الصوتي المرافق هو لسوكوروف نفسه. من تشيخوف وتولستوي الى محادثة عبر الـ"سكايب"، لا يحتاج سوكوروف الى ذريعة بل نقرة. بلى، هو بهذه الحرية في فيلم أوصاه به متحف اللوفر! مرونة كبيرة يتمتع بها لقول ما يريده، واقتلاع الأسئلة الشائكة من محلها. بالنسبة إليه، أوروبا كانت مفترسة بقدر ما كانت رائدة. ونابوليون هو هذا الرمز الذي يجوب في أروقة اللوفر بحثاً عن دور، عن اعتراف، وتأكيد. حركات الكاميرا التي تحلّق فوق المباني الباريسية الجميلة، والعديد العديد من الابتكارات الصغيرة كطائرة نازية تعبر باحة المتحف الداخلية، يمكن اعتبارها من الاعجازات التي تفعل فعلتها في المُشاهد وتجعل الفيلم يرتقي الى مصاف جوهرة تضيء العتمة.
التايلاندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول "ثورجيّ" من الصنف الحضاري، يؤمن بصفاء السينما وصفاء الحياة (يُعرض فيلمه "مقبرة الروعة" هذا المساء). في أعماله، المملة للبعض والمثيرة للبعض الآخر، أن الشيء يجب ألاّ يلغي نقيضه، مثلما التخريب عنده لا يعني التدمير، والموت ليس مرادفاً للنهاية. سينماه خلاصة لقاءين: طول أناة أيوب وحكمة غاندي. حجراً فوق حجر، يشيد معبداً لأحلامه. لا يوازي ذكاءه الاّ حسيته التي تجعله يصور العم بونمي في نوع من كهف على شكل بظر امرأة. مهرجان كانّ، أول من انتبه لفرادة هذا السينمائي التايلاندي في العام 2002، فمنحه آنذاك جائزة قسم "نظرة ما"، ثم عاد واقتنص بعد عامين جائزة لجنة التحكيم عن قصيدته السينمائية "مرض استوائي"، قبل أن يشارك عضواً في لجنة تحكيم دورة العام 2008 التي ترأسها شون بن، وصولاً الى نيله "سعفة" العام 2010 عن "العمّ بونمي الذي يتذكر حيواته الماضية".
مساهماته كبيرة في ما يُعرف بالفنّ المعاصر، وهو أحد الذين ناضلوا ضد الرقابة التايلاندية والقمع الذي تمارسه. طوال سنوات الألفين، ارتبط اسمه بالنضال من أجل الحريات في بلاده. وليست مطالبته بـ"احترام مخيلة المشاهد" الا امتداداً لتلك المعركة. ويراسيتاكول خلاقٌ يأتي من عوالم التجهيز والاختبار، سينماه صعبة جداً بالمعنى التجاري للكلمة، مشبعة بالصمت ولحظات شاردة تأخذ المُشاهد الى التأمل في معاني الوجود. مقاربة ويراسيتاكول للسينما فلسفية أكثر منها مشهدية. تتضمن قدراً كبيراً من الغرابة والمفاجأة نتيجة تربيته السينمائية والفنية، مع اصرار دائم على محو الحوادث وتخريب السيرورة الدرامية.
في مقابلة لنا معه، قال: "أشعر منذ آخر فيلم لي بأنني أكثر جهوزية وتحرراً اليوم، كي أتعامل مع بنود سينمائية جديدة. أريد أن أتعمق أكثر فأكثر في اللغة السينمائية. هذا الفيلم صوّرته في مسقطي واشتغلتُ أكثر على المستوى الانفعالي منه، لا الذهني. لهذا السبب، أراه أقرب الى "متلازمة العصر" منه الى "العم بونمي". أحياناً في السينما، هناك أشياء لا تفهمها لكنك تشعر بها. هذا ما سعيتُ اليه".
بين 1975، تاريخ انجاز فيلمه الثاني، "غيلياب"، و2000 الذي جاء بـ"أغنية الطابق الثاني"، لم يقدّم المخرج الأسوجي روي اندرسون، صاحب فيلم "حمامة تجلس على غصن تتأمل الوجود"، الذي يعرض بعد غد (فاز بـ"أسد" البندقية قبل عامين)، أي عمل جديد. ربما لأن "غيلياب"، لم يستحوذ على الإعجاب النقدي ولم يُغوِ الجمهور، فابتعد اندرسون عن السينما. ولكن هذا لا يعني انه جلس على غصن شجرة يتأمل الوجود، بل انجز نحواً من 400 اعلان تجاري لمحطات اسكندينافية مختلفة، صاقلاً بها معارفه التقنية.
لارس فون ترير قال مرة إنه "يخاف" أندرسون، ويمثّل بالنسبة اليه تهديداً حقيقياً. كان الدانماركي الفوضوي يرى أنه الأكثر جدارة بنيل "سعفة" كانّ. صرح بذلك يوم تسابقا معاً على الجائزة المهيبة، التي ذهبت في نهاية الجولة الى ترير وفيلمه "راقصة في الظلام".
ينتج أندرسون، بكادراته الأنيقة والمشغولة والستاتيكية التي تطغى عليها ألوان ميتة كالأزرق والرمادي والبيج والأخضر الباهت، متتاليات بصرية فيها شيء من كآبة الروح والضجر. بعضهم أطلق عليه تسمية "برغمان المهرّج". فلا شيء جدّياً عنده، ولا شيء مضحكاً فعلاً. سينماه بين بين. تستخرج المأساة من الملهاة، والملهاة من المأساة. عبثية المواقف التي يضع فيها شخوصه هي من مقوّمات سينماه. شخوصه نماذج في البلادة، لكنه لا يهزأ منهم، كما هي الحال مع زميله النمسوي اولريش زيدل، اذ يمنحهم أسباباً تخفيفية ويراعي معاناتهم الشخصية. سينماه تحاول إعادة النظر في القيم الاسكندينافية ليعرّيها ويعطّل فاعليتها.
الرجل ليس مهيأ لفيض المشاعر المتضاربة، كمخرج أسوج الأشهر، ذلك أنه يكبتها كي تنفجر تلك الأحاسيس من الداخل. ولا يمكن تجاهل الجسمانية في عمله. فالشخصيات التي نراها هي أولاً حضور جسدي قبل أن تكون قلباً وعاطفة. أفلامه مصممة ومهندسة كي تبقى راسخة في الذهن، وتقيم في الذاكرة السينيفيلية لأطول فترة ممكنة. في "حمامة..." مثلاً، هناك بضعة مشاهد قد تدخل بأسرع وقت في معاجم السينما: 1) رجل يقع على الأرض في مطعم. إنها النهاية بالنسبة اليه: ولكن، بمَ تهتم موظفة الصندوق في تلك اللحظة؟ بالطعام الذي دفع الراحل ثمنه. همّها الآن، مَن الذي سيأخذ هذا الطعام. 2) فوج من العسكر يدخل حانة ومعهم ملك. على جلالته أن يدخل الحمّام لقضاء حاجة. بيد أن الحمّام مشغول!
هكذا يتبلور خامس أفلام أندرسون، بالعبثية واللامنطق والايقاع البطيء. محاولة شرح ما نراه على الشاشة طوال مئة دقيقة، هي أشبه بمحاولة شرح الحياة نفسها. ماذا يمكن الكتابة في أفلام هذا الرجل ونحن نعلم أنها أولاً وأخيراً تجربة بصرية لا شفهية، أي أن الكلام فيها لا يفيد اذا لم يكن مصحوباً بمشاهدة تخوّلك "لمس" ألوان الفيلم الباهتة القريبة من حال الاحتضار. مهلاً: لن يفيدك أيضاً أن تسأل اندرسون عما أراد قوله. ولا عن معنى العنوان الذي كان نجم العناوين في المهرجان. فأندرسون غير قابل للتصنيف على الرغم من المحاولات، يشرح الماء بالماء، ويذكّرنا بأن وظيفة المخرج ليست بالضرورة التعليق على فيلمه. وعندما يشرح أن فيلمه هذا مستوحى من "سارق الدراجة" لفيتوريو دو سيكا، عبثاً نحاول أن نفهم العلاقة بين الفيلمين!
هذا فيلم عما يمكن تسميته الملل الأوروبي. دائماً بكادراته وبمقاربته الجغرافية للقطة، وبالحركات الجسمانية القليلة، ينجز أندرسون فيلماً تجري حوادثه في غوتنبرغ، مانحاً إيانا إحساساً رهيباً بالمكان والزمان، الأمر الذي يفتقر اليه الكثير من الأفلام في هذه الدورة.
بائعان متنقلان يجوبان المدينة وفي حوزتهما أكسسوارات: وجه بسنّ واحدة، لعبة تُصدر أصوات ضحك، ووجبة أسنان دراكولا. الكلّ يرفض شراء هذه المنتوجات التافهة، ولكن في فيلم لأندرسون، هذا ليس سبباً كي يوقف سام وجوناثان المهمة التي بدآها. إنهما الوحيدان اللذان لا ينتبهان الى سماجة ما يفعلانه. وعندما، بوجهيهما المتجهمين وبابتسامتهما المفقودة، يعلنان أنهما يسعيان الى ملء قلوب الناس بالبهجة، فهذه لحظة سينمائية خالصة تختلط فيها السخرية بالشفقة.
يقدّم أندرسون "حمامة..." باعتباره الجزء الثالث والأخير من ثلاثية عنوانها "أن يكون المرء انساناً" (أو شيء من هذا القبيل)! هذا العنوان وحده، المحفور في أسفل الجنريك، يثير الرعشة ويمثّل برنامجاً كاملاً من الإثارة المترابطة. إنه تمرين فيلمي على إضاعة الوقت وإطالته، يبدأ بثلاثة مشاهد: ثلاثة موتى لا نعرف مَن هم ولا ما علاقتهم بالفيلم الذي سيلي، يبرر وجودهم هنا افتراضٌ مفاده أن الأسوجيين يموتون من الملل. ففي فيلم أندرسون، كما في أفلامه السابقة، كل شيء لامع، نظيف، مهذّب، الى حد الاختناق، والانفجار... والموت.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم