السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

رأي - أكلة النفايات

خالد غزال
رأي - أكلة النفايات
رأي - أكلة النفايات
A+ A-

يسير لبنان منذ عقود سيراً حثيثاً في انهيار مقوّمات كيانه ونظامه السياسي. فالحرب الأهلية المتواصلة منذ سبعينات القرن الماضي، بشكليها البارد والساخن، وانعكاسات الوضع العربي خصوصا في السنوات الأخيرة، ودخول اللبنانيين أطرافا، ساعدت على مزيد من الانهيار البنيوي. أطاحت الحرب الأهلية بنتائجها المدمرة المقومات السياسية التي كانت في اصل التسوية التي قام عليها الكيان والصيغة التي انبثقت منها، نحو إلغاء دور الدولة وانكفاء موقعها، لصالح الطوائف ومؤسساتها وزعمائها، فأتت على الحيز المشترك الذي مثّلته الدولة. باتت كل طائفة ترى الى الوطن من موقعها الخاص، وتسعى الى إلحاق هذا الوطن بمنظومتها. وصارت المحاصصة القاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي اللبناني، وهي محاصصة لم تترك ميدانا الا اخترقته، من السياسة الى الاقتصاد والإدارة والقضاء.
عندما تنهار مؤسسات الدولة وتهيمن المحاصصات بين الزعماء السياسيين وزعماء الطوائف على مقدرات البلد، تنهار مقومات وقيم وطنية وأخلاقية، فيتحول الولاء للوطن نحو الولاء للزعيم المحدد او الطائفة التي ينتمي اليها، ويصبح الهم الرئيسي الإمعان في تدمير الوطن بكيانه ونظامه السياسي، وتسييد منطق الرشوة والفساد وإلغاء كل ما يتصل بالقيم الأخلاقية في علاقة المؤسسات بالمواطن، بل وفي تصرف المسؤولين مهما كانت مستوياتهم مع هذا المواطن. ما كان غير مألوف على صعيد السلطة السياسية لجهة الانتخاب الدوري لرئيس الجمهورية، بات نشازا، بحيث يتعود اللبنانيون على دولة من غير رأس، بكل ما يعنيه ذلك من شلل للبلاد، كما يعتاد الناس على غياب المؤسسة التشريعية من خلال الإصرار على تعطيل دورها، ولا مانع من إنهاء دور الحكومة التي باتت ترمز الى ما بقي من الكيان اللبناني.
عندما تتعطل مؤسسات الدولة، ويسود منطق تناتش مقدرات البلاد، ويصبح منطق النهب والسرقة للمال العام والخاص هو القانون السائد، وعندما يتعود الناس على الحياة وسط هذه القوانين التي تضعها الطبقة السياسية والطوائفية، لا يعود مستغربا افتقار البلاد لأيّ من مقوماتها الوطنية، ولا يعود اي شيء بعيدا من الاستباحة. خلال الاسبوعين الأخيرين، وصل الانحطاط في الحياة السياسية في البلد الى أعلى درجاته من خلال تفجر أزمة النفايات. لم تكن هذه الأزمة مفاجئة، فهي مطروحة منذ أكثر من عقدين من الزمن، تمتنع خلالها الزعامات السياسية والطوائفية عن إيجاد الحلول العلمية لها، وهي حلول غير مستعصية، وتقدم لها أكثر من طرف لبناء المعامل اللازمة لمعالجتها. لم تقبل هذه الطبقة السياسية بإيجاد الحلول بالنظر الى ان النفايات هي لها "دجاجة تبيض ذهبا"، فالمحاصصة "النفاياتية" كانت تتوزع على الجميع، سياسيين وطوائفيين، والجميع متواطئ في عدم إيجاد حلول عملية، لإدراكه ان مزراب الذهب هذا سينقطع. اما ما يصيب الناس من كوارث جبال النفايات المرمية على الطرق، فهو آخر هموم هؤلاء الزعماء.
قد تكون فضيحة النفايات هي ذروة ما وصلت اليه الطبقة السياسية، من زعماء رسميين وغير رسميين وممثلي طوائف ومتنفذين. ولعل هذه النفايات خير تجسيد لما تمثله هذه الطبقة التي هي نفايات قائمة بذاتها. كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب يصف أطراف الطبقة السياسية بأنهم "أكلة الجبنة"، ويمكن وصف الطبقة السياسة والطوائفية الحالية بأنهم "أكلة النفايات"، وهو وصف لا يحمل اي مبالغة. فالكل يريد حصته، ولن يقبل بأي تراجع قبل ان تصبح الأموال في جيبه.
من أعلى درجات الانحطاط التي شهدناها في الأيام الأخيرة، ان الحملات العنيفة التي شنت على هذه الطبقة السياسية والطوائفية، ولم توفر وصفا سيئا لها، لم تحرّك فيها ساكناً، بل بدت غير مبالية بأي نقد، وبدا جلدها "متمسحا"، بل كأنها كمن بصق في وجهه فأجاب ان الدنيا تمطر. تدرك هذ الطبقة وطوائفها ان "الشعوب اللبنانية" بمجموعها وتنظيماتها السياسية ومؤسساتها المدنية، قد باتت جميعها مستلبة، فلا إمكان عندها لقيادة تحرك يطيحها. لقد دجنت هذه الطبقة وطوائفها معظم الشعب اللبناني، واذا ما حصلت اعتراضات فستبقى محدودة، لأن هذا الشعب سينتفض لصالح هذه الطبقة وينزل الى الشارع لدعمها، تأييدا لهذا الزعيم السياسي او الطائفي. ولعل هذا الخنوع الشعبي يشكل إضافة نوعية الى حجم الانحطاط الذي وصل اليه المجتمع اللبناني. فهل يمكن أزمة النفايات هذه ان تفتح على وعي شعبي لما صار اليه البلد؟ ما جرى حتى الآن لا يوحي بهذا "الحلم" المنشود.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم