الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

ياسين الحافظ بين اللاعقلانية العربية واللاعقلانية الغربية

محمود حدّاد
A+ A-

كانت نقطة الحرارة التي جعلتني أقترب من ياسين الحافظ ومن فكره لسنوات قليلة قبل رحيله – وأنا طالب جامعي – أو الجديد الذي وعيته عنه هو إشاراته المستمرة إلى دور العوامل الذاتية المتصلة بالرغبات والإرادات إضافة إلى الظروف الموضوعية في السعي للتغيير العربي المطلوب.


كنت من الجيل الذي وعى السياسة بصفتها انعكاسا فقط للواقع الافتراضي "المتخيل" الذي كنا نراه على الخرائط ونرسمه في أذهاننا ونبالغ في الاعتقاد أنه سيحقق نفسه بنفسه ولوبعد حين. كنا نعتبر أن التجزئة وليدة الاستعمار فحسب وأن الطائفية مجرد قشرة خارجية وأن لا فرق بين ما هو شعبي وما هو شعبوي فكان أن جعلنا نعي أن الأمور ليست بالبساطة التي كنا نرجو ونعتقد. فاستشراف المستقبل شيء والإحساس بمسؤولية المساهمة بتغييره شيء آخر.
وهو لم يعتبر أن السياسة المحضة أو"السياسوية" تستطيع تقديم الحلول لكل مشاكل العالم العربي مثل وقف نسبة الزيادة السكانية غير المتناسبة مع الإمكانات الاقتصادية، وقضايا النقص في الشخصية العربية مثل عدم احترام الوقت، وغياب النظام والتنظيم، وعدم الدقة في العمل، وعدم احترام المجال العام، وغيرها من المسائل والسلوكات الاجتماعية والوظيفية التي لا يعطيها المثقفون العرب عادة الأهمية التي تستحق.
كان تعبير"النقد" أثيراً عنده: نقد الحياة العربية سياسياً ومجتمعياً وثقافياً (مسألة الوعي). ولعله كان سيرحب بنقد بعض طروحاته لو كان بيننا اليوم. إلا أنه من الظلم أن نقارن الوضع العربي الراهن في هذه المجالات الثلاثة بالوضع الذي كان قائما عند وفاته. فلقد تدهورت الأوضاع المؤسفة أصلاً تدهورا بائناً يُذكّر بما كان يسأله قبل وفاته: "هل وصلنا إلى القاع فعلا؟"
مارس ياسين الحافظ النقد السياسي للأوضاع العربية في البداية، خاصة ما يتعلق بما اعتبره الموقف اللاعقلاني لبعض الاتجاهات العربية من سياسة الرئيس عبد الناصر قبل 1967. والداعية إلى عدم الانجرار إلى مواجهة مبكرة وغير محسوبة مع إسرائيل (لكنه لم يقف طويلاً عند الأسباب التي دفعت بعبد الناصر للخروج على عقلانية إستراتيجيته تلك والوقوع في الفخ الذي نُصب له وللحركة العربية في أيار 1967). كما ساهم في النقد الاجتماعي مهاجمًا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية الوسطى (الوطنية) السورية - حسب تعابير تلك الحقبة في بداية الستينيات - لدورهما في إفشال الوحدة المصرية - السورية في1961 ولعدم أهليتهما للمساهمة في التنمية الاقتصادية للبلاد.
في المرحلة الثانية- ما زلنا في الستينات - تحدث عن الاشتراكية والنضال في سبيل تحقيقها وكذلك عن صراع قوى التحرر العالمي ضد الهيمنة الغربية وضرورة تشكيل جبهة عالمية موحدة في سبيل التحرر وهي عناوين تبدو مفوّتة اليوم وبحاجة إلى مراجعة جذرية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تكشف عن وضعه الاقتصادي وطرائق إدارته الداخلية قبل انهياره.
في المرحلة الثالثة (السبعينات) كتب ياسين الحافظ "اللاعقلانية في السياسة العربية" عقب حرب 1973 التي أتت بانجاز عسكري نسبي، وبهزيمة سياسية واضحة. كما كتب"التجربة التاريخية الفيتنامية" التي كانت تقويماً نقديا مقارنا مع التجربة التاريخية العربية. والواقع أن هذا الكتاب أثار نقاشاً كثيراً حول قدرة المجتمع الفيتنامي، المتأخر اقتصادياً إنما القريب من الحداثة ثقافةً وايديولوجياً وسياسةً على النصر – كما كتب بنفسه - بينما لم يستطع المجتمع العربي التقليدي والبعيد عن الحداثة في جميع المجالات خاصة الثقافية والايديولوجية والسياسية سوى إعادة إنتاج الهزائم. ولا شك في أن التحليل المنشور ممتع وغني في تعريفنا على البنية الكاملة للتجربة الفيتنامية، إلا أن مرور أكثر من ثلاثة عقود على كتابته تجعلنا نعيد النظر في بعض طروحاته. فالإرادة مهمة كما الإمكانيات المادية. فلا بد من الإشارة إلى أنه كان هنالك عنصر مادي موضوعي غائب يجب التوقف عنده، وهوأن الحركة الوطنية الفيتنامية كانت مدعومة عسكريًا بصورة جدية من حليف جغرافي قريب وكبير هو الصين الشعبية، وكذلك من روسيا السوفياتية التي لم تبخل عليها بكل أنواع الدعم. أما البلاد العربية فلم يكن لديها حليف جغرافي متاخم كما أنها تلقت دعمًا سوفياتيا عسكريًا قد يكون مقبولاً على المستوى الكمي، لكنه كان أقل نوعية من مستوى التسليح الغربي لإسرائيل على العموم إلا في استثناءات قليلة.
نضيف هنا أن "اللاعقلانية الغربية" ترفد اللاعقلانية العربية التي تحدث عنها ياسين الحافظ. وقد يستغرب البعض استخدامي لتعبير "اللاعقلانية الغربية" عن منطقة تعد الأكثر تقدمًا في العالم الحديث والمعاصر. إلا أنني استخدم التعبير قصدًا لأشير إلى عامل رئيس في دعم الغرب - خاصة الغرب الأنغلوساكسوني- المطلق أو شبه المطلق لإسرائيل لم يعطه المثقفون العرب اهتمامهم الكافي. فهم تحدثوا عن الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل بصفته قاعدة غربية متقدمة في قلب العالم العربي، وتحدثوا عن أنها ضرورية لضمان تدفق النفط العربي إلى شرايين الاقتصاد الأوروبي والأميركي، وهذان عاملان عقلانيان وإن كانا في غير مصلحتنا.
لكن العامل اللاعقلاني الإضافي الذي ظل مُغيباًا يتمثل في العامل الديني الذي يربط الاتجاه السلفي المسيحي الغربي خاصة في بريطانية والمانيا في البداية ثم في الولايات المتحدة الأميركية بإسرائيل بغض النظر عن أية مصلحة سياسية أو اقتصادية أو إستراتيجية (هناك الكثير من المصادر والكتب الأجنبية والمترجمة التي تغطي هذا الموضوع بتفاصيله). وكانت غالبية المثقفين العرب، خاصة اليساريين منهم، رافضين عمليًا لأي تحليل لا يقتصر على الأسباب السياسية والإستراتيجية، وغير واعين لمدى الـتأثير الأيديولوجي الديني على الدعم الغربي الكامل للكيان الصهيوني.
فهل يعقل أن الغرب المعروف بعلمانيته وديموقراطيته ينحو منحى لاعقلانياً في ما يتعلق بقضية محددة ما؟ الجواب الذي اكتشفناه، بعد تردد فكري ومراقبة عينية طويلة لعقود ليست أقل طولاً من الزمن، أنْ نعم. فإسرائيل قد تكون مصلحة إستراتيجية للغرب، لكنها قبل ذلك وأهم من ذلك، ممثلة لايديولوجيا دينية شعبية سلفية متطرفة يحرص المجتمع الغربي – قبل دوله - على احتضانها على الرغم من الآثار العدائية التي يتركها ذلك على علاقات الغرب بالعالمين العربي والإسلامي على حد سواء. أصبح من المحرمات توجيه أي نقد لإسرائيل"المقدسة" ولسياساتها في الغرب والجهة التي تتجرأ، استثنائيًا، وتفعل ذلك تصبح في حكم المنتهية سياسيًا.
فالسلفية المسيحية موجودة في الغرب كما السلفية الإسلامية موجودة عند العرب والعجم. هذا ما سيجعلنا قادرين أن نفهم غياب أي موقف ناقد لإسرائيل في الكونغرس الأميركي وكيف تكون مطالب تل أبيب واجبة القبول ودائمًا في المؤسسات التمثيلية في واشنطن ولندن وبرلين وحتى باريس. هذا الإجماع الذي لا يجابه بأية معارضة، ولو بسيطة، يجعلنا نشك في الديموقراطية الغربية ذاتها لولا أننا نراها في كل الحقول البعيدة عن مسألة الحفاظ على تفوق إسرائيل الدائم على كل العالم العربي مجتمعًا وليس على الحفاظ عليها فحسب. كما أن هناك علاقة بين الضغوط الهائلة التي يمارسها الغرب على مجتمعاتنا وغياب الديموقراطية التي يدعواليها الغرب نفسه صبح مساء.
في النهاية، لا تكمن أهمية كتابات ياسين الحافظ في القائه الضوء على هذه الفكرة أوتلك، أوتنبيهه لهذا النقص في الفكر السياسي العربي أوذاك، وإنما في منهجيته التي أصرت على التحليل الذي يجمع الظروف الموضوعية والذاتية كي نخرج بوعي "مطابق"- كما كان يؤثر القول- للواقع.


استاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم