السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

جولييت بينوش لـ"النهار": الحكمة جيّدة لكن العصيان أفضل!

المصدر: "النهار"
A+ A-

كان في جيبي أكثر من 20 سؤالاً، عندما حان موعد اللقاء بجولييت بينوش الساعة العاشرة صباحاً. في نهاية الدقائق الـ23 التي استغرقها حديثنا الحميمي، اكتشفتُ انني لم أطرح عليها الا ربع تلك الأسئلة. فالحديث المشوّق حملنا من محور الى محور، من قارة الى أخرى، في وقار بعيداً من التكلف، استلهمنا منه تسلسل حوارنا. بدت بينوش منهكة، ولكن سعيدة لوجودها هنا، في بيروت. تكلمتْ بإسهاب، ضحكتْ بصوت عال، صمتتْ لتمسح دمعة متمردة عندما ذكرتُ اسم كشيشتوف كيشلوفسكي، المخرج البولوني الذي رفعها الى ذروة الضوء في "أزرق" (1993). طوال مسيرة تمتد على ثلاثة عقود ونيف، وقفت بينوش أمام عدسة كبار السينمائيين: غودار، كاراكس، مينغيللا، هانيكه، فيرارا، كيارستمي، كروننبرغ، واللائحة طويلة. أعطوها وأعطتهم في لعبة بينغ بونغ لا مثيل لها. اليوم، تجاوزت بينوش الخمسين ببضعة أشهر، لكن روحها المغامرة لا تزال تلك التي كانت عند الشابة الممثلة نينا في فيلم "موعد" لتيشينيه التي تذهب الى باريس لتحقيق حلمها.


* بكيتِ أمس خلال الافتتاح. ما الذي أثّر فيك؟
- أن أكون هنا في بيروت. كان هذا كافياً كي أشعر بشيء ما. غالباً ما أبكي. دمعتي سخية (ضحك).



 "الحياة تُعطى لنا بشكلها الخام وعلينا نحتها" (بينوش).


 


* هذه ليست المرة الأولى تأتين فيها الى لبنان. قلتِ أمس انك زرتِه قبل عشر سنين...
- نعم. نحن الممثلين نرافق أفلامنا الى جميع انحاء الأرض. نسافر معها. للأسف، الوقت لا يسمح لي بالمكوث. لديّ واجبات أسرية، عليّ أن أكون مع أولادي. أخاصم الزمن كي أكون ممثلة وأمّاً في الوقت عينه. أسعى الى ايجاد نوع من توازن بين الحياتين. أحياناً، عندما يرافقني أولادي في السفر، أبقى لفترة أطول، واذا لم يفعلوا، أقول دائماً في سرّي: "سأعود يوماً ما حين يكونون قد كبروا". سأعود معهم أو من دونهم، وحين أعود لن أشعر بالذنب كوني أهملتهم.



مع دوني لافان في "دماء فاسدة" لليو كاراكس (1986).


* كم عدد البلدان التي قلتِ فيها "سأعود" ولم تعودي...؟
- حياتي لم تنته بعد...(ضحك).


* السينما وسيلة سفر أيضاً. سفر عبر الزمن وسفر الى عوالم سينمائيين مختلفين...
- بالنسبة إليَّ، السينما سفر داخلي يسمح لي بالتحرك في نطاق مشاعر مختلفة، مشاعر تتكوّن لدينا في مراحل عمرية مختلفة. هذا ما يثير حماستي ويدفعني الى الاستمرار في هذه المهنة. يسألونني دائماً عن عمري وعمّا اذا كنت أخاف من التقدم في السنّ وكيف أتعايش مع هذا. أردّ دائماً ان كل مرحلة من عمري تتيح لي ان أكون انسانة مختلفة وممثلة أخرى. عندما صرتُ في الأربعين، بدأتُ أختبر جوانب من شخصيتي لم أكن قادرة على اختبارها في الثلاثين، وهلمّ. الحياة حراك مستمر. تخيّل أن تظل في العشرين لمدى العمر. هذا أشبه بجحيم. ستسأل نفسك: "متى سأخرج من هذا السجن؟". في أيّ حال، شعرتُ دائماً ان بداية العشرينات أصعب بكثير من بداية الثلاثينات او الأربعينات، عندما نكون أتممنا معظم خياراتنا. هذه فترة من الحياة، تصبح فيها معرفتك لذاتك وللآخرين أكثر عمقاً.


* في أيّ عمر بدأتِ تشعرين بهذا؟


- ما إن أصبحتُ في منتصف الثلاثينات. قبل هذا العمر، كنت افتقر إلى الثقة بالذات. كنت "أطحش" في الحياة؛ لم أكن أخاف من شيء، ولكن لم أتصالح مع نفسي وأفكاري وهواجسي الا عندما صرت في الثلاثينات.


* بتِّ أكثر حكمة اليوم؟


- أنا حكيمة لكنني غير مطيعة. الحكمة جيدة لكن العصيان أفضل. العصيان ضد ذاتي أنا أولاً، كي لا أتعلق بعادات وأفكار تقيّدني. أن نعيد النظر في أنفسنا وأن نبحث عن كل مستجد ومثير، فهذا ما يجعلنا في شباب دائم.


 



برفقة عباس كيارستمي الذي صوّرت تحت ادارته في طهران.


* عندما نلقي نظرة سريعة على الفيلموغرافيا الخاصة بكِ، أول ما يلفتنا هو هذا التنوع الرهيب. هل وضعتِ خطة لبلوغه منذ البداية، ام انه حدث بالمصادفة؟
- الحياة هي التي جاءتني بها. لكنها هي أيضاً نتيجة خيارات قمت بها. لم يكن ليحصل هذا لو لم أغامر. ذهبتُ الى ايران لألتقي عباس كيارستمي. كنت تعرفتُ إليه من خلال لقاءات متكررة في مهرجانات. كنت أرغب في العمل معه بشدة. اللقاءات لا تأتي دائماً من تلقاء ذاتها. عليك افتعالها. المصير أيضاً يمكن افتعاله...


* شارل أزنافور يقول في أغنية شهيرة له: "المصادفة تفتعل اللقاءات"...
- أؤمن بأن الحياة تُعطى لنا بشكلها الخام وعلينا نحتها. أشبّهها بمنحوتة. إمكانات خلقها في تصرفنا. الخوف يمنعنا احياناً من القيام بذلك. فنجد أنفسنا محاصرين داخل جدارن أربعة. لكن الخيال يأتي دائماً لمساعدتنا.



في "ثلاثة ألوان: أزرق"، ذروة الضوء والسينما.


* نادراً ما نجد ممثلة يوجه اليها مخرج كبير تحية في أحد أفلامه. أتكلم عن كيارستمي في "شيرين"...
- (بإبتسامة تعبر عن رضا). كانت غمزة لي منه. تناولنا العشاء في باريس. سألني اذا كنت مستعدة أن أذهب الى ايران لأشارك في أحد أفلامه. قلت "نعم" فوراً. يوم وصلتُ الى طهران، قيل لي ان التصوير جار في مكان بعيد من العاصمة، على مسافة ساعتين بالسيارة. كنت منهكة، كنت انتهيتُ لتوّي من فيلم آخر. قال لي: "لستِ مجبرة على التصوير اليوم، يُمكن الانتظار حتى غد". فجأة أرى مجموعة نساء يصلن الى المكان ويخضعن لجلسة ماكياج. لم أفهم ماذا يحصل. ثم أسمعه يناديني، طالباً اليّ النزول الى كهف منزله لأكتشف ان التصوير يجري فيه. كيارستمي دبّر لي مقلباً. كان يصوّر بكاميرا صغيرة، وكلّ شيء يدلّ أننا في فيلم لكيارستمي.


* لدينا الكثير من أدوارك في بالنا. لكن صورة واحدة تتقدم كل الصور الأخرى، أقله بالنسبة إليَّ، وهي تكاد تكون صورة أيقونية: بينوش في "ثلاثة ألوان: أزرق" لكيشلوفسكي...
- (بعد تفكير طويل تردّ متأثرة) ما عشته مع كشيشتوف، أستطيع أن أقول إنه كان قمة البساطة. كان يعرف بالضبط أين يموضع كاميراه. كنّا نصوّر بسرعة. كان هناك إخاء حقيقي بينه وبين مدير التصوير. التعاون بين الجميع كان في أوجّه. أتذكر ان عملية التصوير جرت في جوّ من السعادة المطلقه. ضحكنا طوال الوقت. أتذكر انه كان يجعلني أكرر اللقطة أربع أو خمس مرات قبل أن يشغل الكاميرا للتصوير. عندما يبدأ بالتصوير، لم نكن نعيد. كان يكتفي بلقطة واحدة، لكنه يحتجّ لأنني لا أستطيع أن اعطيه الاحساس نفسه كما في المرات التي لم نكن نصوّر فيها. كنت أردّ انني لا أعرف ماذا يحصل ولستُ مسؤولة عما يخرج مني. كان مرتبكاً بعض الشيء، جراء اعتقاده انني أفبرك الأحاسيس.



مع كيشلوفكسي الذي كان يكتفي بتصويرها مرة واحدة.


* هل كان الشغل معه مختلفاً جداً من العمل مع الآخرين؟
ـــ نعم. كانت لديه شخصية مختلفة. كان يمسّني بشكل آخر، هذا لا شكّ فيه. كان يدخّن دائماً سجائره وينظر اليّ بعينيه الزرقاوين ونظرته الحادة. كان صاحب نكتة. كان التصوير محكماً ولكن طغى عليه الفرح والخفة...


* ألم تظهر الفروق الثقافية بينكما خلال التصوير؟
- البتة. هذه من الأشياء التي لا تحصل الا نادراً. ان تصوّر فيلماً مع أحدهم يعني أن تذهب الى ما بعد الزمان والمكان. من خلال التصوير، نقفز فوق كلّ ما تلقيناه من تربية وما نمارسه من تقاليد. انه عمل توحيدي. نكون في عالم ينتمي الى منطق السينما. لا تعود السمات الاجتماعية للفرد ذات أهمية.



في "عشيقا بون نوف" لليو كاراكس: حبّ وتشرد.


* ولكن، هذا الانتقال المستمر من تقمص شخصية الى أخرى، ألا يزعزع استقرارك؟


- هذا خياري. لو فُرِض عليَّ، لكانت المسألة مختلفة. ولكن، بما انني اخترتُ ان أكون ممثلة، فهذه المهنة أصبحت السبب الذي أعيش من أجله. على أي حال، لا أعتبرها انتقالاً من شخصية الى أخرى، بقدر ما أنظر اليها كاستكشاف لأشياء مختلفة. أشبه التمثيل للفنّ التشكيلي: تتأمل 15 لوحة، كلّ واحدة مختلفة عن الأخرى، بيد أن ما يجمعها هو اللون والحركة.


* هل من دور يسبق غيره في مخيلتك عندما تعودين الى ماضيك؟
- انظر الى أدواري كلها بالتساوي، كي لا أولّد الغيرة (ضحك). أخيراً، صوّرتُ مع المخرجة الاسبانية ايزابيل كواكسيت. أدّيت دور سيدة عاشت ظروفاً صعبة من عزلة جوع وإحساس بالبرد. عندما انتهى التصوير، شعرتُ أنني منهكة جسدياً. سحب الفيلم مني كل طاقاتي، شعرتُ أنني على الحافة. تجربة مثل هذه مثلاً، تعنيني كثيراً. هذه هي الأدوار التي تبقى في داخلي.



نالت "أوسكار" عن دورها في "المريض الانكليزي" لأنطوني مينغيللا.


* هل هناك شخصيات كرهتِها ولم ترغبي في اعادة مشاهدتها؟
- عموماً، عند الممثل ميل فطري لعدم إدانة الشخصية التي يجسدها. بالنسبة إليَّ، لم يتعلق الأمر في أيّ يوم من الأيام بأن أكره الشخصية أو أحبّها. احتاج الى أن أفهم الشخصية. عليَّ ان أستوعب خلفياتها: كيف نشأت، أي طفولة عاشت، لماذا تتصرف على هذا النحو؟ هذا يساعدني على أن أفهمها. ما إن تفهم الشخص حتى يصبح كرهه مستحيلاً.


* مم تخافين؟
ـــ نحن الذين نزرع الخوف في دواخلنا، ونحن الذين ننزع فتيله. الخوف أيضاً خيار. وهذا لا يعني انه ليس في الحياة عذابات تفضي بنا الى الخوف. ولكن على الإنسان أن يعرف ذاته جيداً كي يفهم ما هو مصدر كل هذا الخوف ويحوّله الى شيء آخر. كلّ شيء قابل للتحول. حالياً، لا أريد أن أخلق لي مخاوف لا أحتاجها.


* أجدك لا تبحثين فقط عن الشهرة والاعتراف الدولي. لعل قدومك الى لبنان أكبر دليل على اهتمامك بمهرجان متواضع، حباً بالمغامرة والتواصل مع الآخر. لا مشكلة عندك في ان تحاضري أمام مئة شخص في صالة صغيرة، بعدما كُرّمتِ في لوكارنو أمام 8000 شخص في آب الماضي...
ـــ أحبّ أن أطرق الأبواب التي لا يطرقها أحد...



خلال مشاركتها في مهرجان برلين عام 2013.


* هل تتذكرين أوّل تماسّ لك بالسينما؟
- في البداية، لم تكن السينما حلمي. كنت أريد أن أصبح ممثلة مسرح. كنت أريد العمل في نطاق عائلة فنية. فجأة، بدأتُ أرتاد السينما. اهتممتُ بالأفلام لأن أمّي كانت تحرص على تثقيفي. مرةً، نزلتُ بمفردي الى باريس وأمضيتُ فيها شهراً كاملاً. كانت فرصة ذهبية كي أتسجل في مدرسة الرقص. كنتُ أشاهد فيلمين كلّ يوم. كانت أمّي تعلّم بالقلم في مجلة "باريسكوب" الأفلام التي عليّ مشاهدتها. هكذا شاهدتُ كل أفلام فيلليني وتاركوفسكي وكاسافيتس. لكن تربيتي السينمائية الحقيقية بدأت مع لقائي بليوس كاراكس.


* على كلّ حال، كان الحظّ حليفك...
- (مممم)، أعتقد انني كنت محصّنة. حمتني قوة غير مرئية.


* ماذا تقصدين، أيّ نوع من القوة؟
- انه احساس جسدي، لا شيء ذهنياً. وهو حتماً مرتبط بالعاطفة.



برونو دومون يديرها في "كاميّ كلوديل 1915".


* لا شيء دينياً في "فلسفتك" هذه، أليس كذلك؟
- لا، لستُ ملتزمة ديانة. لا أجد نفسي قادرة على الخضوع لفكرة الايمان بالمعنى الكلاسيكي. الايمان موجود في كلّ ثانية من كلّ دقيقة. الايمان لي هو القبول بفكرة أن كلّ شيء ممكن وكلّ شيء قابل للتحول. لا يمكن الفصل بين الايمان والحياة. هذه ليست ديانة حتى. انه احساس ينتهي هنا. كلّ ما أفعله هو أن أكون جاهزة لأستقبل. يكفي أن نكون مستعدين للإستقبال. لا داعي لنعقّد ما ليس معقّداً. الحياة أبسط من هذا. الديانة تبلور فكرة الملكية وأنا ضدّها.


* أين أنتِ من أحلامكِ، أو ما بقي منها؟
- لم أصل بعد الى نهاية الطريق. هناك الكثير في انتظاري. الحياة كلها مفاجآت. اتوق الى وحدة بين الناس، ولا يزال أمامنا الكثير لننجزه في هذا المجال.


* أمس ردّدتِ كلمة "تحدّي" غير مرة...
- أن ترسم طريقاً خاصاً بك يعني أن تخطو خطوة اولى نحو المجهول. هكذا يبدأ كل طريق. لكن الثقة هي التي تدفعك للذهاب الى مثل هذه الأماكن.


في لقائها مع الجمهور: العلاقة بين الممثل والمخرج هي كالعلاقة بين اثنين يمارسان الحبّ


"عندما لا يخاطبني الدور، أرفضه. على الدور أن يخاطبني أولاً، قبل أن يخاطب الجمهور، والا لا أستطيع أن أكون مقنعة". هكذا جاء ردّ جولييت بينوش على سؤال وُجِّه إليها عن كيفية اختيارها لأدوارها، أثناء اللقاء الذي جمعها بمجموعة من الصحافيين وطلاب السينما، على هامش الدورة الرابعة عشرة لـ"مهرجان بيروت الدولي" (1 - 9 تشرين الأول)، الذي انطلق مساء الأربعاء الفائت بعرض فيلم "سيلز ماريا" لأوليفييه أساياس من بطولة بينوش (في الصالات المحلية بدءاً من الخميس المقبل). نحو 100 شخص حضروا اللقاء. بينوش كانت كريمة جداً مع جمهور متيّم بها ومتعطش لمعرفة المزيد عن تجربتها التي بدأت قبل 30 عاماً، فلم تختصر من أجوبتها على الرغم من التعب الذي غزا تفاصيل وجهها. فهي لم تتوقف عن التصوير هذه السنة. مثّلت في ثلاثة أفلام، وقريباً ستضطلع بدور انتيغون في مسرحية سوفوكليس التي ستحملها في جولات دولية عدة.
الممثلة الخمسينية التي كنا نعتقد انها تزور بيروت للمرة الاولى، كشفت انها جاءت الى لبنان في زيارة غير رسمية قبل نحو عشر سنين يوم دعاها غبريال يارد (صاحب موسيقى "المريض الانكليزي" الذي نالت عنه بينوش "أوسكارها") لحضور احدى حفلاته. هي التي بكت ولم تستطع كبت انفعالها خلال افتتاح المهرجان في "أبراج" بعد ساعات قليلة من هذا اللقاء، لم تحب ان تنظّر في الواقع اللبناني الشائك، كونها لا تعرفه جيداً. لكنها أخبرتنا عن مارون بغدادي: "كنت على تواصل معه، كان يريدني أن أمثّل في "فتاة الهواء". للأسف، السيناريو لم يكن جاهزاً. كنت أحبّه جداً".
تحدثت بينوش عن السينمائيين الذين عملت واياهم. توقفت مطولاً عند تجربتها مع أوليفييه أساياس وبرونو دومون الذي أدارها في "كاميّ كلوديل 1915". روت انه بعد عرض "نسخة طبق الأصل" لعباس كيارستمي، راح بعضهم يقول لها انها تشبه الشخصية التي جسّدتها في هذا الفيلم، ما أثار امتعاضها. وعندما اخبرت كيارستمي، قال لها: "هذا جيد، في بضعة أشهر، سيرونك في دور آخر وسيعتقدونك شخصاً آخر". صعب عليها أن تقول ما هو فيلمها المفضل عبر التاريخ، فطُلب اليها على الأقل ذكر اسم فيلمها المفضل لهذه السنة: "أخيراً، لم تتسنَّ لي مشاهدة الكثير من الأفلام. صوّرتُ في أماكن عدة: تينيريف، النروج، بلغاريا، صقلية. كانت لي انشغالات كثيرة. من الممثلات، أجد نفسي أميل الى جينا رولاندز، ليف أولمان، آنا مانياني".
كشفت انها هي التي طلبت من دومون اسناد دور كاميّ كلوديل إليها، كونها كانت معجبة بأفلامه السابقة: "كان معلوماً انه لا يعمل مع ممثلين معروفين. قلتُ في سري: لا بأس، أريد ان أعمل مع هذا الرجل. اعتقد انه أفضل مَن صوّرني. كان يريدني أن أرتجل بلا نصّ انطلاقاً من قراءاتي لرسائل كلوديل. اقتفيتُ أثرها، ذهبتُ الى حيث ذهبت حين كانت على قيد الحياة. تشبعتُ بتفاصيل حياتها. قليلة المرات التي أدارني فيها. كان يقول: معك، أشعر بالضجر. ليس لديّ ما أفعله. كنتُ أستقيظ ليلاً وارى كاميّ الى جانبي. شعرتُ انني انزل في السواد. هذه من التجارب التي تبدّل الانسان".
بالنسبة إلى بينوش، العلاقة بين الممثل والمخرج هي كالعلاقة بين اثنين يمارسان الحبّ: "لا نستطيع أن نقول مَن ينام مع الآخر، لأن ممارسة الحبّ مشاركة".
دافعت بينوش عن السينما الأميركية قائلةً انها ليست كلها ذات طابع تجاري. هناك الكثير من السينمائيين الكبار في الولايات المتحدة الذين ينجزون افلاماً مهمة. وأضافت: "الفرق بيننا وبينهم اننا في فرنسا لدينا نظام يحمي "سينما المؤلف". هناك مؤلفون في أميركا ايضاً. المشكلة ان سيطرة أرباب الاستوديوات قوية جداً. هؤلاء لا يحبّون خوض مغامرات سينمائية لأنهم يخافون ان يطيروا من مناصبهم في حال الفشل. على كلّ حال، لا أريد ان أتأمرك. لن أغادر أوروبا، هذا كان خياري منذ البداية".
لا يحرج بينوش الاعتراف بأنها مضطرة أحياناً الى القيام بأفلام تجارية، كي تضمن عيشها، وتشتري حريتها ويتسنى لها أن تمثّل في الأفلام التي تحب. "أحاول الاّ أفصل كثيراً بين سينما منتشرة وسينما قليلة الانتشار. في النهاية، كلّ الأفلام تتحدث عن الكائن الحيّ. فيلم مثل "غودزيللا" الذي شاركتُ فيه أخيراً، يعلّم ممثلة مثلي كيف تموت في ثانيتين (ضحك). لا أخفي عليكم انني تقاضيتُ عن سبعة أيام تصوير في هذا الفيلم، أضعاف ما تقاضيته في "سيلز ماريا".
في محاولة منها لبث الطرافة في الأجواء، قالت بينوش انها تضع الـ"أوسكار" التي نالتها في البرّاد كي تبقى طازجة. ولا تخفي أيضاً انها تشعر بالفرح، عندما تشاهد فيلماً ناجحاً كانت رفضت المشاركة فيه. لكنها تشعر بالغضب عندما تشاهد فيلماً سيئاً رفضت المشاركة فيه!
الممثل الذي يجيد التمثيل هو عند بينوش ممثل يجد رابطاً بين الجسد والروح. كل هذا عبر المشاعر. تقول: "كم مرة يُقال لنا "لا تبكِ" أمام حادثة أليمة. هذا مستحيل. نحن بشر. صحيح ان الممثل في المسرح قادر على اختيار الايقاع الذي يريد، ولكن كلا من ممثل المسرح والسينما يحتاجان الى تورط كبير".
أخيراً، مثّلت بينوش في فيلم التُقطت مشاهده في ايطاليا. كانت سعيدة بهذه التجربة. ولكن لم تكن تعرف ماذا تفعل. كانت ترتجف. "قد تكون النتيجة هراء، ولكنها كانت تجربة ممتازة (...). عندما أعمل مع مخرج مبتدئ، لا أعتبره طفلاً. الفنان فنان مهما كان عمره. عملتُ مع مخرج كان يقول لي: "ضعي ذراعك هكذا، افعلي هذا...". جلستُ معه وصارحته: "لا يمكن أن تتحكم بي الى هذا الحدّ، لم أعد أعرف ماذا أفعل". جرى اتفاق بيننا: ثلاث لقطات على طريقته وثلاث لقطات على طريقتي أنا. الممثل كالإسفنج. الوقوف أمام الكاميرا ليس سهلاً. خصوصاً عندما يجب عليك أن تركّز، فترى مثلاً ان مدير التصوير يمضغ علكة ويبدو غير مكترث (ضحك). هذا كابوس. لكن لا أحبّ ان أفصل نفسي عن فريق العمل".
ترى بينوش ان السينما لا تغيّر المجتمع، لكن الرجال او النساء المنخرطين فيه قد يغيّرونه. تعتبر ان الثورة لا يُمكن الا ان تكون فردية، ولكن على الحكومات أن تهتم بالفنّ، فـ"هذه من ضرورات كلّ مجتمع وشروط النهوض به".
"في اليوم الذي ستنقطع فيه الأدوار"، تقول الممثلة الراقية ذات الضحكة الصاخبة، "يمكنني ان أنتقل الى الاخراج او أكتب. الأهم ان أحافظ على نشاطي. لا يمكن أن أكتفي بأن أكون ضحية هذا النظام، علينا الانقضاض عليه لتغييره. علينا أن نكون اذكى من النظام الذي يحكمنا. نحن البشر، علينا ان نقول "لا" الى ما يحوّلنا الى شيء، ونرضخ فقط الى ما يحوّلنا الى موضوع. أنا خلاّقة ولا أكتفي بأن أكون انسانة".


 


"وداعاً بيروت... سأعود يوماً".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم