الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

الخصخصة وسيلة وليست غاية... لضرورة الإفادة من تجارب الدول

ذو الفقار عيدي
الخصخصة وسيلة وليست غاية... لضرورة الإفادة من تجارب الدول
الخصخصة وسيلة وليست غاية... لضرورة الإفادة من تجارب الدول
A+ A-

سيطر النظام الاقتصادي القائم على إيلاء القطاع العام مهمة تحقيق التنمية، على معظم دول العالم، حيث اتصفت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بحضور الدولة في مختلف القطاعات الوطنية وسيطرتها على مختلف النشاطات الاقتصادية بهدف تحقيق المصلحة العامة. وساد هذا التوجه حتى بداية الثمانينيات، حيث ظهر بعد ذلك توجه جديد تم اعتماده من قبل أكثر دول العالم، يهدف إلى إعادة تنظيم دور الدولة على الصعيد الوطني. هذا التوجه الجديد واكبه بروز خصائص اقتصادية مختلفة مثل: تفعيل التبادل الاقتصادي الحرّ بين الدول، إزالة العوائق أمام تبادل الأموال والخدمات، تفعيل الاستثمارات، إنشاء كتل اقتصادية في أسواق تنافسية عالمياً إلخ...

وعت الدول الصناعية كما الدول النامية التحديات الناشئة عن هذا الواقع، فاعتمدت استراتيجيات تنموية مختلفة، من بينها سياسة اقتصادية ترتكز على إصلاحات بنيوية في الاقتصاديات الوطنية، واعتماد سياسة الخصخصة.

برزت الخصخصة كوسيلة فعالة تحقق أهدافاً مختلفة مثل: تسديد الدين العام، تقليص عجز الموازنة العامة في الدولة، وضع حد للبيروقراطية الحكومية، جعل الأسواق المالية أكثر ديناميكية، إنشاء رأسمال شعبي (Capitalisme Populaire)، تفعيل المنافسة ما يؤدي إلى زيادة الانتاج وتحسين النوعية، تحسين الكفاءة الاقتصادية والإنتاجية والمالية في الدولة الخ...

ويمكن وضع الخصخصة في مفهومين اثنين:

أولاً ـ في المعنى الضيق:

تعني الخصخصة تحويل ملكية المؤسسة العامة إلى القطاع الخاص بصورة نهائية.

ثانياً ـ في المعنى الواسع:

تعني الخصخصة كل تحويل إلى القطاع الخاص لعناصر مؤسسة عامة لا تزال مملوكة من قبل شخص القانون العام، وهي بالتالي تحتفظ بصفتها العامة لأنها لا تزال مرفقاً عاماً.

1- أخذ الاجتهاد الفرنسي بالمفهوم الضيق حيث اعتبر خصخصة كل بيع للأغلبية المطلقة من رأسمال المؤسسة العامة إلى القطاع الخاص، وطالما أن الدولة أو شخص القانون العام يملك الأغلبية المطلقة من رأس المال فإن العملية لا تعتبر خصخصة بل فتح رأسمال المؤسسة العامة أو عملية تنفس.

2- أما المشترع اللبناني فقد اعتمد المفهوم الواسع للخصخصة، حيث نص قانون الخصخصة الرقم 228/2000 في الفقرة الثالثة من المادة الأولى على أن الخصخصة هي تحويل المشروع العام كلياً أو جزئياً أو تحويل إدارته كلياً أو جزئياً بإحدى الطرق القانونية، إلى القطاع الخاص، بما فيه نظام الامتياز والأنظمة الحديثة المشابهة له لإقامة وإدارة مشاريع اقتصادية لمدة معينة. إن هذا التعريف كما ورد في القانون 228/2000 لم يكن موفقاً، فقد خلط المشترع بين الخصخصة وبين العقود المختلفة كعقد الامتياز وعقد الإدارة وغيرها، ولم يلحظ الفوارق التي تميز العقود بعضها عن بعض. فهذه العقود موجودة قبل أن يصدر القانون الرقم 228/2000 وهي تتم ضمن آليات وضوابط محددة كرسها القانون والاجتهاد الإداري. ومن ناحية أخرى، فإن اعتماد سياسة الخصخصة في ثمانينيات القرن الماضي كان يهدف إلى تعديل الاستراتيجيات المتبعة من قبل الدول في ظل هذه العقود.

3- إن تطبيق الخصخصة في لبنان ضرورة وحاجة، إذ إن هناك أسباباً عديدة تدفع بهذا الاتجاه، حيث يأتي في طليعتها الدين العام وعجز الموازنة الناتجان بشكل أساسي عن الهدر وعن سياسة الإعمار التي اتّبعتها الحكومات المتعاقبة في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1989، وإلى عجز بعض المؤسسات العامة ككهرباء لبنان مثلاً، ما أثقل كاهل الخزينة العامة، بالإضافة إلى أسباب أخرى سياسية تتعلق بمنهجية إدارة المؤسسات العامة بطريقة مذهبية وطائفية، ما شكّل خروجاً واضحاً على مفاهيم دولة القانون والمؤسسات. هذه الأسباب وغيرها أبرزت الخصخصة كأحد الحلول المطلوبة ليس فقط من قبل السلطة بل أيضاً من قبل القطاع الخاص. وفي هذا الإطار يقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً متطلبات العولمة وانفتاح الحدود بين الدول، وهذا يوجب علينا أن نطور إمكانياتنا للاستفادة من هذا الواقع.

4- إن انفتاح الحدود بين الدول في ظل العولمة يوجب تحسين وتطوير فعالية وإنتاجية المؤسسات العامة لكي تصبح قادرة على المنافسة، وهذا يوجب تطوير السوق الاقتصادية والمالية وتحفيز المنافسة، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاج وتحسين نوعيته، بالإضافة إلى الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة في عمل المؤسسات موضوع الخصخصة. وبالتالي يصبح فتح الأسواق أولوية ضمن حدود ترعى المصلحة الوطنية وسيادة الدولة.

5- إن تطبيق الخصخصة في لبنان يطرح بعض التساؤلات السياسية والاقتصادية والمالية:

أ‌- فعلى الصعيد السياسي، لا تعفي الخصخصة الدولة من واجباتها ومسؤولياتها، بل على العكس، إن ضعف الدولة يمكن أن يضيّع الإيجابيات المتوخاة.

ب‌- وعلى الصعيد الاقتصادي، تنشئ الخصخصة آثاراً إيجابية كونها تمسّ نشاطات اجتماعية واقتصادية وازنة.

ج- وعلى الصعيد المالي، ليست الخصخصة بديلاً من سياسة مالية فعالة، بل يجب أن تشكل جزءاً من برنامج إصلاحي اقتصادي ومالي شامل.

فالخصخصة يجب ان تندمج في إطار برنامج إصلاحي سياسي اقتصادي إداري ومالي يهدف إلى تنمية مجموع الاقتصاد الوطني.

6- إن تطبيق الخصخصة وفق ضوابط وتقنيات مختلفة يسمح بنجاح العملية وبتحقيق الأهداف المرجوة. فتنظيم الخصخصة في فرنسا حدد بموجب نصوص تشريعية وتنظيمية مختلفة مثل القانون الرقم 793/86 تاريخ 2/7/1986 والقانون الرقم 912/86 تاريخ 6/8/1986 والقانون الرقم 923/93 تاريخ 19/7/1993 الذي أعطى الصفة الدائمة لبرنامج الخصخصة، بالإضافة إلى قوانين خاصة تتعلق بخصخصة مؤسسات معينة.

إن هذا التنظيم المعتمد في فرنسا أعطى لبرنامج الخصخصة الصفة الدائمة، وخول الحكومة اللجوء إلى خصخصة المؤسسات العامة وفق برنامج محدد ومعتمد من قبلها، ما سهل الإجراءات ونظم العملية وحدد ضوابطها بشكل مسبق. بينما نرى في لبنان أن القانون الرقم 228/2000 حدد مبادئ عامة في الخصخصة وافتقر إلى الإجراءات والتقنيات المختلفة لتنظيم وضبط العملية، تاركاً هذه الإجراءات إلى القوانين الخاصة، ونص على أنه في كل مرة يراد فيها خصخصة مؤسسة عامة، أن تعود الحكومة إلى مجلس النواب للحصول على قانون يجيز خصخصة المؤسسة المعينة، ويحدد الضوابط والآليات التي ستتَّبع، ما يعقّد عملية الخصخصة ويطيل الإجراءات.

7- من ناحية اخرى، نرى ان قوانين الخصخصة في فرنسا وضعت ضوابط عديدة بهدف حماية المصلحة الوطنية وسيادة الدولة. فعلى سبيل المثال تم تحديد حيازة الاجانب لـ20% من رأس مال الشركة المخصخصة سواءاً كانوا اشخاصاً طبيعين ام معنويين، وفق المادة /10/ من قانون 6/8/1986 (عدلت لاحقا) . وقد حدد القانون الرقم 923/93 مساهمة الاجانب، ايا تكن جنسيتهم بـ5% من رأسمال الشركة عندما يتعلق بنشاطات معينة كالصحة العامة ، الدفاع الوطني الخ.، اضافة الى ذلك هناك ما يسمى بالنواة الصلبة للمساهمين التي تحد من امكانية بيع المساهم للاسهم التي يكون قد اشتراها بسرعة بهدف تحقيق ربح سريع، ما يؤدي الى اضطراب في عمل المؤسسة. لذلك وضع القانون هذه التقنية لكي يؤمن استقرار عمل المؤسسة المخصخصة بفعل التزام هؤلاء المساهمين بعدم بيع الاسهم خلال فترة محددة.

ولضمان حقوق العمال في المؤسسة المخصخصة، أوجبت المادة /11/ من قانون 6/8/1986 ان يحفظ 10% من أسهم المؤسسة المخصخصة المطروحة في السوق لعمال هذه المؤسسة الذين يستفيدون أيضاً من حسم حتى حدود 20% ومن حق تقسيط يمتد لثلاث سنوات. بالاضافة الى هذه التقنيات المختلفة، نص القانون أيضاً على السهم الذهبي الذي يعطي حقوقاً مهمة للدولة التي تملك هذا السهم. إن مختلف هذه التقنيات، باستثناء السهم الذهبي، هي غير ملحوظة في قانون الخصخصة اللبناني الرقم 228/2000. لقد أدت هذه الضوابط المختلفة في القوانين الفرنسية الى تملك أغلبية أسهم المؤسسات المخصخصة من قبل فرنسيين.

8- إن قانون الخصخصة يجب أن يحدد الاطار المؤسساتي للعملية. فالسلطة السياسية هي التي تطلق برنامج الخصخصة وهي التي توقفه، ولكن هذه السلطة بحاجة الى مؤسسة متخصصة قادرة على قيادة عملية الخصخصة الى تحقيق أهدافها. من هنا أنشأ القانون اللبناني الرقم 228/2000 المجلس الاعلى للخصخصة، وعين حدود صلاحياته وتنظيم أعماله بالمرسوم الرقم 554/2001 تاريخ 23/5/2001. إن طريقة تأليف المجلس لم تكن موفقة هي أيضاً، فهو يتألف من رئيس الحكومة رئيساً ومن أربعة أعضاء دائمين هم وزير المال، وزير العدل، وزير الاقتصاد والتجارة ووزير العمل. وينضم الى المجلس حكماً ويصبح عضواً فيه الوزير المختص عند النظر في خصخصة مشروع عام يدخل نشاطه في نطاق مهام الادارات التابعة لهذا الوزير أو الخاضعة لوصايته. وقد أجيز للمجلس بموجب هذه النصوص الاستعانة بالخبرات اللازمة من داخل الادارة ومن خارجها.

9- إن تأليف المجلس من سياسيين يؤدي من ناحية الى نقل التجاذبات السياسية والانقسام السياسي الى داخله، ومن ناحية أخرى، الى غياب الاستقرار في عمله. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ان معدل عمر الحكومات في لبنان هو /18/ شهراً، فإن أعضاء المجلس سيتغيرون حكماً مع تغير الحكومة. وهذا ما يجعل عمل المجلس غير مستقر، ويؤدي الى عدم الاستقرار في عملية الخصخصة. لذا يجب ان يؤلف هذا المجلس من اختصاصيين وخبراء في موضوع الخصخصة، وهذا ما يؤدي الى تبسيط الاجراءات وإبعاد التجاذبات السياسية.

10- إن وضع ضوابط وتقنيات مختلفة في عملية الخصخصة، وأبعادها عن التجاذبات السياسية مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات السيادة الوطنية والمصلحة العامة وهواجس الطبقات الفقيرة وعمال المؤسسات المخصخصة هي عوامل أساسية في نجاح العملية. وفي هذا المجال نستشهد بقول رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق جاك شيراك، إذ اعتبر أن الخصخصة هي التأميم الحقيقي للاقتصاد، بحيث إنها تسمح لكل مواطن بأن يشارك بحرية في اقتصاد الوطن.

La privatisation est la véritable nationalisation de l’économie en ce qu’elle permet à chaque

citoyen de participer librement à l’économie du pays.

11- لقد أدى التطبيق المنظم للخصخصة في فرنسا إلى تحقيق نجاحات مهمة، حيث حققت إيرادات الخصخصة في هذه الدولة حوالى /117/ مليار أورو استخدمت في مجالات مختلفة: تسديد الدين العام، إعادة تمويل وهيكلة المؤسسات العامة التي تواجه صعوبات، منح مساعدات الى بعض الصناديق الخ... إضافة الى ذلك فقد أدت الخصخصة الى نتائج مهمة على صعيد زيادة كتلة المساهمين الشعبية وزيادة كتلة المساهمين من العمال في تملّك المؤسسات المخصخصة، حيث إن 3/4 العمال أصبحوا مالكي أسهم في المؤسسات التي يعملون فيها. وفي نهاية 2006 بلغ جميع العمال المساهمين 2،5 مليوني شخص يساهمون بـ/41/ مليار أورو، ما يشكل 2،5% من رسملة البورصة. إضافة الى ذلك، فهناك نتائج مهمة تحققت على صعيد تطور عمل المؤسسات المخصخصة، حيث أصبحت هذه المؤسسات أكثر مرونة وحققت تطوراً على صعيد سياسة الاستثمار واتجهت نحو التمويل الذاتي وزيادة رقم الاعمال الخ...

12- إن الوضع السائد في لبنان يتميز بالشك وانعدام الثقة. هذا الوضع لم يأت من الفراغ. لقد دلت التجربة في لبنان على صورة مشوهة. فالخصخصة موجودة في جو من الفساد وبوجود طبقة من السماسرة والاستغلاليين والطفيليين، بينما التطبيق الصحيح للخصخصة يتطلب عملاً جماعياً من قبل المواطنين والمسؤولين يهدف الى إنشاء قوة ضغط تتوحد حول برنامج جدي وشفاف مجرد من اي اعتبار مذهبي أو فئوي أو سياسي. إن الخصخصة في لبنان يجب أن تؤمّن مشاركة المواطنين في تملك المؤسسات العامة المخصخصة، وفي تطوير الاقتصاد الوطني، وأن لا تكون عملية تحويل الاحتكار العام للمؤسسات في الدولة الى احتكار خاص.

في النهاية، يجب الملاحظة ان الخصخصة ليست محدودة بتغيير ملكية المؤسسات العامة، بل ينبغي ان تعدّل المحيط الاقتصادي والقانوني والمؤسساتي للمؤسسات موضوع الخصخصة، ووضع برامج علمية وعملية قادرة على تطوير القوى الحية للقطاع الخاص بالشكل الذي يسمح باستغلال كافة الإمكانات الاقتصادية المتاحة.

محام بالاستئناف، ودكتور في القانون، وأستاذ محاضر في كليات الحقوق

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم