الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

مهرجان كانّ، دورة كورونا

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
مهرجان كانّ، دورة كورونا
مهرجان كانّ، دورة كورونا
A+ A-

لولا وباء كورونا، لكنّا الآن، في هذه اللحظة بالذات، في مدينة كانّ الفرنسية، منشغلين بانطلاق مهرجانها السنوي الشهير، داخل أروقة قصرها وعلى مداخل صالاته، أمام الشاشات، فوق الكراسي التي يمر عليها الآلاف، عاماً بعد عام، على رصيف مقاهيها ومطاعمها وامتداد كروازيتها الشهير الذي نعبره كلّ سنة ذهاباً وإياباً عشرات المرات.

لولا وباء كورونا اللعين، لكنت أنا شخصياً، في مثل هذا الوقت من يوم الثلثاء، أركض من جهة إلى جهة، استعداداً للافتتاح. كنت بلا أدنى شك شاهدتُ فيلم وس أندرسون الجديد، "د فرنتش ديسباتش"، المتوقع عرضه في الافتتاح، وهرعتُ للحاق بمؤتمرَين صحافيين، أحدهما مع أعضاء لجان التحكيم برئاسة الأميركي سبايك لي، والآخر مع طاقم عمل فيلم أندرسون الذي كعادته استعان بعدد من النجوم في أدوار صغيرة. ثم، توجّهتُ إلى شقّتي الواقعة على بُعد ٣ كيلومترات من القصر، لصوغ مقالة عن هذا الحدث الذي ينتظره جميع المهتمين بالسينما في العالم.

أستطيع أن أمضي بهذه الـ"لولا" إلى ما لا نهاية. في قدرتي ان أتخايل الكثير ممّا كان يمكن ان يحصل. عملية سهلة، كوني حضرتُ كانّ خلال الأعوام الـ١٤ الماضية، بلا انقطاع، وصرتُ حافظاً لمجريات الأمور، منذ لحظة وصولي إلى المطار في نيس، حتى مغادرتي منه. ولكن للخيال حدود، أقله في هذه الحال، فهو لا يستطيع أن يلغي حقيقة أنني الآن، في بيروت، جالسٌ خلف الكومبيوتر، أكتب مقالة عن دورة لن تُقام، بل أُلغيت بسبب انتشار وباء. يحصل هذا لأول مرة، منذ حططتُ في كانّ عام ٢٠٠٦. حتى في السابع من أيار ٢٠٠٨، يوم أقفل "حزب الله" المطار، تدبّرتُ أمري لأجد سبيلاً إلى المهرجان.

بذلت ادارة كانّ الكثير من الجهود لإنقاذ الدورة الثالثة والسبعين (١٢ - ٢٣ أيار)، على ما كان واضحاً من تصريحات تييري فريمو طوال الفترة الأخيرة. عبثاً، جرت محاولات لتأجيلها من أيار إلى نهاية حزيران - بداية تموز. البعض اعتبرها مناورة، البعض الآخر رأى فيها جهداً كبيراً من أجل الانتصار للحياة، ضد الموت المنتشر. لستُ هنا لمناقشة النيات. ما يهمّنا هو ان قرار رئاسة الجمهورية الفرنسية الغاء كلّ المهرجانات في الصيف، أمسى في النهاية، بمثابة الضربة القاضية. الثقافة، حتى في دولة مثل فرنسا، ليست من الأولويات في هذه المرحلة الدقيقة. وهذا مفهوم، في زمن كهذا. القضية تتجاوز الرغبة والارادة والعناد، انها قضية سلامة عامة. ثمة وباء منتشر يحصد ضحايا، لا يستطيع أحدٌ تحمّل مسؤولية جمع آلاف الناس في مكان واحد، هذا اذا افترضنا ان لدى الناس استعداداً للمخاطرة بحياتهم من أجل حضور مهرجان سينمائي، تسلّق سجّادة حمراء، التقاط صور سلفي، الخ.

اذاً، يمر أيار من دون ان نحطّ في كانّ. لو أحدهم "تنبأ" لنا بهذا في برلين، لضحكنا عليه. لكن الأشياء تطورت بسرعة، والزمن ينتظرنا خلف الباب ويترصد بنا. عام بلا كانّ، هذا يعني خسائر سينمائية كبيرة، سيدفع ثمنها الجميع: المشاهدون، النقّاد، الصحافيون، صنّاع الأفلام، صالات العرض، والمهرجان نفسه الذي لم يُلغَ سوى مرة واحدة في تاريخه، بسبب الحرب العالمية الثانية (وتم ايقافه مرة بسبب أيار ٦٨). أيار بلا كانّ، يعني انه ستكون هناك ثغرة في ذاكرتنا السينيفيلية.

مجتمع السينما يشعر باليتم حيال هذا المشهد. فالمهرجان بالاضافة إلى كونه متنزهاً لكلّ أنواع الفضوليين والمتطفلين وصيّادي الفرص، هو عبور إلزامي للعاملين في السينما. انه المكان حيث يفترض بك ان تكون اذا كنت معنياً بالفنّ السابع بشكل أو بآخر. المكان الأبرز لعرض الأفلام، اكتشافها، تذوقها، مناقشتها، شتمها، مدحها، الكتابة عنها، الترويج لها، وتهيئة الأرض للخروج بها إلى الصالات التجارية لاحقاً. مكان يختلط فيه التعب بالشغف، الواجب بالمتعة، السطحي بالجوهري. إلغاء كانّ خضّة داخل المنظومة السينمائية، وهذا في طبيعة الحال ستكون له انعكاسات سلبية على مجمل الصناعة السينمائية في العالم، خلال الفترة المقبلة. والانعكاس هذا لن يسلم منه الإعلام السينمائي والمشاهدون والصالات والصنّاع والمهرجانات والجميع.

العديد من الأفلام أصبحت الآن بعد إلغاء الدورة ٧٣ بلا سقف، بلا مأوى، بلا حضن. يحلو لي تسميتها بالأفلام المشردة، التي ستُعرَض لاحقاً في مهرجانات أخرى، اذا سمح تخفيف اجراءات الغلق بذلك. هذه الأفلام تشكّل عادةً زبدة إنتاج العام، انها أفلام السينمائيين الذين يعودون عاماً بعد عام إلى الكروازيت (بالاضافة إلى أصوات حديثة)، ويجلبون معهم جديدهم الذي قد يصيب وقد يخيب، ولكن دائماً ما يكون محل دهشة وترقب، حتى عندما يخيب.

كانّ قرر المواجهة، وإن رمزياً، على طريقته. فرغم الالغاء، سيتم الاعلان عن البرنامج الرسمي (من دون إدراج الأفلام داخل الأقسام التقليدية)، في مطلع الشهر المقبل. الهدف من هذا الاجراء الشكلي هو تكريم الأعمال التي وصلت إلى مكاتب المهرجان من كلّ أنحاء العالم؛ أعمال نالت اعجاب لجنة الاختيار، تم اعتمادها، ثم شاءت الظروف الحالية ألّا تُعرض على شاشاته. وبالتالي، لن يعرف صنّاعها عظمة الحضور إلى هذا الصرح، لقاء الجمهور والصحافة وتسجيل بعض الذكريات خلاله. ارتأت ادارة كانّ ان كلّ فيلم من هذه الأفلام سيحمل اشارة خاصة تفيد انه من ضمن تشكيلة كانّ ٢٠٢٠. هذه الاشارة بمثابة شهادة ان الأفلام نالت "بركة" المهرجان السينمائي الأكبر في العالم، وهذا ما يساعد في تسويقها.

الأفلام ليست الضحايا الوحيدة لغياب كانّ هذا العام. فستتخربط كذلك أعمال عدد من المهرجانات التي تستعيد عروض المهرجان الفرنسي. في حال انعقادها، ستعاني من شحّ.

كانّ نبذ منذ بداية الأزمة ظاهرة المهرجان الافتراضي التي راحت تنتشر من دون أن يخبرنا أحد ماذا يعني تحديداً مهرجان يجري في مكان ما من الفضاء. لهذا، سأل فريمو في مقابلة مع "سكرين دايلي": “ماذا يعني المهرجان الافتراضي؟ مَن هو جمهور هذا المهرجان؟ كيف ينظَّم على مستوى الزمان والمكان؟".

المأزق كبير على المستوى السينمائي، وغياب كانّ يساهم في تعميقه نفسياً وحيوياً وتسويقياً. قد يحتاج المجتمع السينمائي أشهراً للنهوض والتعافي التدريجي. لهذا السبب، هذه الدورة الملغاة من كانّ، أردناها مناسبة للعودة في الزمن إلى الوراء، لنستعيد بعضاً ممّا نحب في هذا الحدث الكبير، من خلال الذين تولوا تغطيته على مدار سنوات. انها فرصة لنعود إلى كانّ، ولو عبر الذاكرة، لنكتب فيه ما لم نكتبه عبر السنوات، ما لم يسعفنا ضيق الوقت لكتابته. طوال ١٢ يوماً، أي حتى الـ ٢٣ من الجاري، سننشر سلسلة مقابلات مع صحافيين ونقّاد يروون تجربتهم في المهرجان، بالاضافة إلى مقالات تستعيد ١٠ من أهم الأفلام التي شاهدتها في كانّ، وتركت فيّ أثراً بالغاً، منذ مشاركتي فيه قبل ١٤ عاماً.

"دورة كورونا" هذه، إن صحّت تسميتها كذلك، هي مناسبة لنبش دفاتر كانّ، في انتظار طبعة العام ٢٠٢١.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم