السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

في طرابلس: لازَموا الحَجر داخل محالّهم ليبيعوا في الخفاء... "كورونا يخاف الفقر"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
في طرابلس: لازَموا الحَجر داخل محالّهم ليبيعوا في الخفاء... "كورونا يخاف الفقر"
في طرابلس: لازَموا الحَجر داخل محالّهم ليبيعوا في الخفاء... "كورونا يخاف الفقر"
A+ A-

طرابلس متفردة في معايشة وباء كورونا العالمي، مثلما تفرّدت في خوض سائر المحطات الوطنية، بحرمانها المزمن، وجروحها غير المندملة، ولأسباب كثيرة جعلتها مدينة مخضرمة في فعل التأقلم.

هُنا، يتحايل الفقراء على التّعبئة العامّة بأسلوب غير مطروق، يعكس الاعتقاد بأن "الحاجة أمّ الاختراع". فحاجة الباعة في الأسواق الدّاخلية إلى فتات من اللّيرات يفي بالحدّ الأدنى من معيشتهم، دفعتهم لحَجرِ أنفسهم داخل محالهم المقفلة من الخارج، مبتكرين وسائل جديدة للتواصل مع المشاة، وهم قلّة، لأن الغالبية العظمى في طرابلس ما زالت ملتزمة الحجر المنزلي.

"النّهار" رصدت إحدى يوميات هذه الأسواق، حيث يتحايل الباعة على التعبئة العامّة، ملتقطين أملًا بالنجاة من الموت جوعًا. كأنّ استفحال الفقر يزيدهم اقتناعًا بأن الجوع هو المهدّد الأوّل لحياتهم، لا كورونا.

البيع من محال مغلقة وشقق

في الأجواء صمت مطبق لم تعتده الأسواق القديمة، التي عاينّا جزءها الممتد من سوق النحاسين حتى سوق الصاغة (سوق الذهب)، مرورًا بالسوق العريض وتفرّعه في السّوق الضيق، حيث توجد الملابس والأحذية وأدوات التجميل بأسعار رخيصة نسبيًا. يخترق هذا الصمت هدير لسيارة مرت، أو صرخات أطفال يلعبون كرة القدم في مدخل بناية، أو قرقعة نراجيل نصبها شبان فقدوا أرزاقهم، يدخنونها أمام محالهم المقفلة، "تمضية للوقت" بحسب ما قال أحد المدخنين.

اللافت بأن العسكريين أكثر من المدنيين، يقفون ضمن مجموعات تمترست في عدة نقاط. يرقب العساكر وعلى الأغلب يغضّون الطّرف عن هذا الخرق "ربّما لأنّ أبواب محالنا مقفلة. ربّما لأنّ أسواقنا شبه فارغة كما تلاحظين، لذلك نحن لا نهدّد السّلامة العامّة" بحسب نور، موظفة في محل بياضات حجرت نفسها في الداخل، الّتي قالت إنّها لم تبع حتّى اللّحظة زبونًا واحدًا لكنها تلازم المحل قائلة: "أن نبيع قطعة واحدة أفضل من عدمه". توضح بأنّها تستعين بصبيّ يقف عند مدخل السّوق العريض، يسأل السيدات عن حاجتهن لبياضات ويقتاد الزبونة لداخل المحل، بعد تأكيده أن البائعة أنثى.

يبدو أنّ هذا الأسلوب صار "قواعد سلوك" ((code of ethics جديدة، اتفق عليها الباعة بمقتضى التعبئة. فعلى بعدِ أمتار، نشاهد بائعًا كهلًا يقنع سيدة محجّبة للصّعود الى شقة يقف عند مدخل بنايتها. تسأل السيّدة باستياء "كيف ستقنعني بالصعود إلى شقة، معقول؟"، فيجيب "والله لست بمفردي. في الداخل بنت تُدعى جوجو ستتولّى بيعك". يناديها البائع بصوتٍ أجشّ، فتطلّ فتاة عشرينيّة محجّبة من الطابق الأول، هاتفة "تفضلي حجّة"، وتفتح لها باب الشرفة لتتأكد من رؤية الملابس المعلقة في الداخل.

نمشي خطوات، فنلتقي عبد العزيز، بائع أكسسوار، واقفًا أمام محله المقفل. يقول إنّ لا عدوى ستنتقل له أو للزبائن، باعتبار أن هذه الأسواق شبه مقفرة "لو لم أكن "طفران" لما وقفت كل هذه الساعات أمام محلي في انتظار زبون. بالكاد أنهض بثمن الطّبخة لعائلتي. أنا أب لأربعة أولاد وما أقوم به هو لتأمين ما يسكت جوعنا". ويضيف "الـ400 ألف الّتي تكلّمت عنها الحكومة، كذبة".

هذا المبلغ (400,000 ل.ل.) رصدته وزارة الشؤون لإعانة الأسر الأكثر حاجة ضمن "برنامج التكافل الاجتماعي" لمعالجة تداعيات كورونا. ولم يطرح هذا البرنامج ترجمته الفعلية، سواء في طرابلس وهي الأشد حاجة، أو في غيرها من المناطق. ويتساءل كثيرون عن هذه المماطلة، التي يبررها رؤساء البلديّات والمخاتير، المعنيون بتجميع البيانات حول المستفيدين، بالوقت الذي يستغرقه تجميع هذه البيانات.

والسؤال المطروح هنا، بما أنّ وزارة الشؤون تمتلك لوائح وافية بأسماء ومعلومات الأسر الأكثر فقرًا، من خلال برنامجها السابق "لدعم الأسر الأكثر فقرًا"، لماذا إهدار الجهود والوقت في ظلّ هذا التدهور الدراماتيكيّ؟

سوق الصّاغة

خطّة البيع نفسها يعتمدها سوق الصاغة. المحال ظاهريًا ملتزمة بالحجر، لكن أمام بعض الأبواب يقف باعة. ينتظر هؤلاء مرور أيّ سيدة ليسألوها "بدك تبيعي دهب؟"، فشراء الذهب خارج عن طائل الجميع. هذا السؤال، طرحه علينا أيضًا صبيّ صغير، اصطحبنا الى بوابة محلّ مقفل، راح يطرق عليها طرقات خفيفة. فتح لنا البائع. وجدناه قابعًا بالداخل. هو فعلًا محجور. يرتاب حين يعلم بأننا صحافة، فنطمئنه بأننا نحافظ على السرية. يسأل الصائغ "إيجار محلي يبلغ 30 مليون ليرة سنويًا. لديّ ولدان. ماذا أفعل"؟

على المدخل الثاني للسوق، لجهة الجامع المنصوري، يقف شاب لوّحت وجهه الشّمس، يسأل بإلحاح "أتريدين بيع الذهب؟"، وحين نسأله عن دوره في هذه العملية، يقول إنّه يحاول تأمين زبون لأحد المحال، فيصطحب الزبون لداخل المحل، ويتقاضى مبلغ 5000 ليرة "لقاء كلّ بيعة".


احتجاجات ليلية

هذا الخرق للتعبئة ليس الوحيد في طرابلس. فأسواق الخضار في التبانة والعطارين تشهد حركة عادية، حيث يتزاحم الزبائن بدون مساحات آمنة. يتخذ باعة وزبائن هذه الأسواق، احترازات وقائية هشة، بالكاد تظهر في كمامات وكفوف يضعها البعض.

لكن الخرق يتصعد الى تمرد في ساعات الليل. فمنذ ثلاثة أسابيع، شوارع طرابلس، ومؤخرًا ساحة عبد الحميد كرامي التي شكّلت معقل ثورة 17 تشرين في المدينة، تشهد احتجاجات ليلية لا تهاب حظر التجول. بمرور الوقت واشتداد الضيق والفاقة، تتصعّد لهجة المتظاهرين وتتزايد أعدادهم التي بلغت أكثر من 300 شخص ليل الأربعاء الماضي، وتطوّرت يوم الجمعة الى حرق دواليب، ومواجهات استمرت حتى ساعة على مرأى من العساكر الّذين حاولوا ترهيب المتظاهرين بالعصي والسلاح، بعدما لم يمتثلوا لنداءات أطلقها الجيش على مكبرات الصوت، يدعوهم للعودة أدراجهم.

يحدّثنا مراد (32 سنة)، بائع كعك متجول، فقد مصدر رزقه منذ بدء التعبئة. نزل مراد ليل الجمعة الى ساحة عبد الحميد كرامي، حاملًا شعار: "بدنا خبز وبدنا طحين، بدنا ناكل جوعانين". حين سُئل عن خطر إصابته بكورونا، جراء المخالطة والتزاحم، يجيب بأنّ طرابلس في مأمن من هذا الوباء، مستنتجًا: "كورونا يخاف الفقر".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم