السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

إشارة السماء

نايلة تويني
نايلة تويني
إشارة السماء
إشارة السماء
A+ A-

كانت الساعة تشير إلى نحو التاسعة صباحاً بتوقيت باريس في ذلك اليوم الذي سيغيّر حياتي الى الأبد. صحوتُ على اتصالات تخبرني بأنّ ثمة انفجاراً حصل في بيروت. تكثّفت الاتصالات. لا أجد جبران. جبران لا يجيب. الإجابة جاءتني من التلفزيون. حين سمعتُ الاسم وقرأته على الشاشة: استشهاد جبران تويني!

في تلك البرهة، أدركتُ أنّ حياتي انتهت.

اللحظة الأصعب هي لحظة خسارتك أباً شكّل في وعيك كلّ ما في الحياة.

تحاول الوقوف على قدمين ترتجفان وحمل الألم كفافاً، فيأتيك من جدك المفجوع بخسارة النبض، خبرٌ مفاده العثور على أشلاء من فقدته. تذهبُ مع جدك لتسلّم الأشلاء. تعيش أحلك المشاهد المرعبة، فتحمل علبة صغيرة تضم ما بقي من جسد والدك الشامخ.

تغوص النفس في أغوار الألم والحداد والأسود فتصنع وعياً ورؤى أخرى. يمرّ الوقت. تتبدّل نظرتك إلى الحياة، وإلى معايير انفعالاتك تجاه الأشياء والمشاكل والحلول. فمن عاش الخسائر الكبرى وحمل الأشلاء في علبة، تصبح مشاكل الدنيا في نظره حبلاً معقوداً يحتاج شيئاً من الصبر لحلحلته، وكفى. مع الفقد الكبير، تصبح على يقين بأنّ ثمة حلّاً لكلّ مشكلة، وتجدكَ قابلاً للتكيّف والتفاوض. يرتسم معنى الحياة في عنوان ألا مستحيل بعيداً من الموت وصحة من تحبّ.

مُرّ التجارب كالغربال، يُبقي إلى جانبك الوفيّ والصادق، ويُسقط أقنعة ويحصّن الإنسان ويصنع نضوجاً مكثّفاً وتماسكاً وقدرة على تمييز خطأ الأمور من صوابها.

هذا الاكتساب من التجربة يتأرجح ما بين يأسٍ وأملٍ.

في أحيانٍ، تشعر أن كلّ ما حولك أسود وأشبه بأفق مسدود. تتراءى لك نقطة ضوء على هيئة إشارة من السماء تثنيك عن الاستسلام. لا بدّ من إيمانٍ واستمرار ٍ.

وفي هذا المسار، يحيط بك مقرّبون يمدّونك بالطاقة الإيجابية ويشعرونك بأنك لست وحيداً. أما أولادك، فهم مغناطيس العاطفة والحبّ والقوة الولّادة للأمل.

إشارة السماء والحبّ والدائرة الوفيّة تحرس مسار الإيمان برسالة أؤتمنتُ عليها. نعم، "النهار" ليست وظيفة أو مجرّد مؤسسة. رسالة الصحافة خُطَّ حبرها في مدرسة تستحقّ الاستبسال في الدفاع عن وجودها كرمى للذين رحلوا وبقوا وأحبّوها وآمنوا بها صنواً لمعنى لبنان والحرية وتقبّل الرأي الآخر والمهنية الرصينة. تجدّ ديكها صيّاحاً بعد كل سقوط ومحنة. فإذا به مدركاً معنى المراحل الصعبة والتبشير بفجرٍ جديدٍ.

لحظة علمي بموت جبران، اعتبرتُ أنّ حياتي انتهت. ومع الوقت، سيبقى جزءٌ منّي مفقوداً، لكن ثمّة ما دعاني الى قسم الاستمرار مهما تحطمتُ وانكسرت. ثمّة يدٌ تمسك بيدي وترشدني إلى بقعة الضوء.

ثمّة طاقة عظيمة من السماء تبقيني متفائلة برغم كلّ السواد. ولي ذاكرة تحفظ صورة جدٍّ تحمَّل ما لا تقوى عليه الجبال من فقد الأحبّة، وبقيَ شامخاً قادراً على الطلب من حفيدته بألّا تكون كالرجال، بل كما أرادها جبران.

يتداخل الشخصيّ والمهنيّ والوطنيّ في قصتي. ولطالما جمع التماثل هذه الأقانيم الثلاثة في حياتي. لبنان الجريح وطنٌ لا يموت. نمرّ بفترة شديدة السوء. لكنّ التاريخ يقول بأننا سننهض ونعبُر. "النهار"، خطّ الدفاع عن لبنان بأقلامها، تعاني اليوم ما يعانيه قطاع الإعلام من أزمات. لكن يخبرنا عدم الاستسلام والأفكار الجديدة ووفاء القراء، بأننا سنصمد. جبران رحل وأخذ معه شيئاً منّي، لكنّه ترك لي نقطة ضوء أنسج من خيوطها أمثولة الأمل والحلم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم