السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

وحده الإسراع في تشكيل الحكومة يعيد الثقة بلبنان عاجلاً

الدكتور طوني عطاالله
وحده الإسراع في تشكيل الحكومة يعيد الثقة بلبنان عاجلاً
وحده الإسراع في تشكيل الحكومة يعيد الثقة بلبنان عاجلاً
A+ A-

تتعامل الطبقة الحاكمة مع ثورة اللبنانيين وموجة الغضب الشعبي التصاعدي منذ 17 تشرين الأول ضد حكم الفساد وسوء الإدارة الحكومية والزبائنية، وكأنها مجرّد تظاهرة مطلبية عادية قابلة للإحتواء عن طريق بعض المسكّنات، أو التخويف من "الحرب الأهلية" المدبرة والفوضى، أو التهديد باستغلال التباينات المذهبية والطائفية وتأجيجها، إضافة إلى وسائل أخرى كلاسيكية بالية.

يراهن الحكم على تعب الثوار واستنزاف قواهم بالرغم من ان ما يحصل هو غير مسبوق في تاريخ لبنان، مما لا يترك مجالاً للطبقة الحاكمة كي تطمئن أو ترتاح. وتبدو المعالجات الرسمية بمثابة نماذج عن تهرّب المسؤولين من تحمّل مسؤولياتهم وتقاعسهم عن الإصلاح، وتظهر غزارة إنتاج المخيلة التعطيلية والمخادعة تحت مسميات يقال لها "دستورية" وهي ليست من الدستور في شيء.

بات مؤكدًا ان حدة الثورة، والتحركات الاحتجاجية، مستمرة في الصعود بسرعة المصعد الكهربائي فيما وصفة أهل الحكم ومستشاريهم، هي أشبه بحال عجوز يلهث وراء الحل واللحاق به عبر تسلق الدرج سيرًا على الأقدام. لا يمكن التعامل مع الحراك الشعبي الكبير المستمر منذ قرابة الشهر كما لو أنه تظاهرة بسيطة من النوع المألوف، والاستمرار في تجاهل كل المتغيرات التي قلبت الأوضاع رأسًا على عقب. تتطلب الإجراءات مقاربة تجديدية لهذا النمط من الحراك تكون قادرة على الإحاطة بالتحولات في هذه المرحلة التاريخية الانتقالية الراهنة. ولا تبدو الطبقة الحاكمة بأن لديها القدرة على استيعاب المتغيرات الحاصلة. وما تقوم به، برغم بعض التصريحات، لا يخرج عن حالة إنكار الظاهرة، أو المراوغة والمخادعة في الاعتراف بها والتظاهر بتمثيل مسرحية ابتداع الحلول.

أن يواصل "أهل الحل والربط" التصرّف وانتهاج سلوكيات واتخاذ إجراءات تناقض توجهات الإرادة الشعبية هي ضروب بدائية من التذاكي والشطارة والمخادعة في زمن الجيل الجديد والحروب السيبرانية. أضحت حكومة تصريف الأعمال كأنها قناع لسلطة خفية تتحكم بها قوى أمر واقع تتخذ من الدولة رهينة للحفاظ على سيطرتها وتوظيفها في خدمة مصالح إقليمية ودولية لا علاقة بها بلبنان وبالتغيير الديمقراطي المرجو.

المشهد اللبناني اليوم في مكان آخر، لم يكن في حساب أحد، كما في كل الثورات غير المتوقعة. مشهد وحّد المواطنين، ومن كل المناطق والطوائف، جمعهم في مطالب وطنية ومعيشية لم يكن يحلم اللبناني العادي برؤية مشهد مماثل، وأبرز ما يطالب به في اعقاب إستقالة الحكومة: تأليف حكومة مصغرة اكسترا برلمانية من إختصاصيين غير حزبيين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة، ووقف نهب الدولة والمال العام، استعادة المنهوب منه، والتخلص من العوز والحرمان، إجراء انتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون جديد يؤمن صحة التمثيل وعدالته كإحدى أرقى أشكال الانتقال السلمي للسلطة، وبناء لبنان جديد على أنقاض دولة الزبائنية.

كفى تلويثًا للمصطلحات وضربًا لدولة القانون

تعرّضت كل المفاهيم السياسية والحقوقية في لبنان للتلوّث والتشويه. قبل استقالة الحكومة، ذَكر ان ما يؤخر استقالتها هو الاتفاق المسبق على البديل حيث لا تُشكّل استقالة الحكومة مخرجًا من الثورة لأن ترحيل الحكومة وتأليف حكومة جديدة يحتاجان إلى أجواء وفاقية! واتخذت بعض الأطراف مواقف حادة أبرزها "حزب الله" الذي عارض استقالة الحكومة.

وبعد استقالتها، ذُكر ان تأخير تحديد مواعيد الاستشارات النيابية مرده إلى ان رئيس الجمهورية يقوم بمشاورات لتحضير الأجواء وتسهيل ولادة الحكومة. وقيل ان رئاسة الجمهورية تتريث في الدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة بدافع التفاهم على تشكيلة الحكومة مع من سيُكلّف بتأليفها قبل صدور مرسوم تكليفه.

وذكر أيضًا أن إقفال الثورة للطرق منع الوزراء والنواب وكل المسؤولين من القيام بالأعمال الضرورية لتسيير مرافق الدولة، وأوجد لديهم حالة غير مسبوقة. وتردد بأن أحدًا من النواب لا يجرؤ على التوجه الى قصر بعبدا وساحة النجمة للمشاركة في الاستشارات. وانهم لم يحضروا إلى مجلس النواب بتاريخ 5/11/2019 للمشاركة في جلسة انتخابية لاستكمال هيئة مكتب المجلس، ما اضطر الرئيس نبيه بري إلى إرجاء الجلسة. فكيف بهم يتوجهون إلى الاستشارات؟!

سيق الكثير من الأعذار والحجج تبريرًا للمماطلة وهدر الوقت في عملية تأليف الحكومة بمراحلها المختلفة، وهي تصب في إطار استراتجية التعطيل والفراغ. لسوء الحظ ان الظروف الاستثنائية الصعبة التي تعيشها البلاد تستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة وتشكيل الحكومة بأسرع ما يمكن منعًا من الوقوع في الانهيار الكامل. فهل الطبقة الحاكمة مدركة لدورها ومسؤوليتها وبأنها هي المسؤولة عن الكارثة في حال وقوعها؟

وهل ان الطبقة الحاكمة واعية للحلول التي قد يقدم عليها القطاع المصرفي واضطرار بعض المصارف إلى القيام باندماج على غرار ما حصل في الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت الولايات المتحدة الاميركية عام 2008، وأسفرت عن زيادة نسبة البطالة وتسريح الموظفين الفائضين وما استتبع ذلك من أزمات اجتماعية معيشية وغيرها بعد ان تبيّن ان بعض المصارف هي أقرب إلى الدكاكين.

تُشكل بعض الإجراءات المعتمدة من جانب الفريق الاستشاري للقصر بدعًا لا علاقة لها بالدستور كتأخير مواعيد الاستشارات بالإضافة إلى المشاورات الجانبية التي تجريها دوائر القصر لاستيلاد الحكومة بطريقة مركّبة لترتيب أكثريات وأقليات نيابية وأسماء ومحاصصات وفيتوات وطغيان أقلية بما يضمن التأثير على قرارات النواب، وهم المعنيون الأساسيون بالإستشارات، وتعطيل دورهم، ودور رئاسة الحكومة، وتاليًا التصويت في مجلس الوزراء. وما يجري هو محاولة لإرساء أعراف وبدع جديدة تخرق الطائف وتناقض الدستور بوصفه المرجعية التي تؤمن استمرارية الحكم. لم تفلح المغالاة في الحرص على الدوزنات داخل الحكومة المستقيلة خلال مرحلة تحضيرها، واستئثار أحد الأطراف بالتعطيل، كل ذلك لم يمنع انفجارها بعد أشهر قليلة على ولادتها لم تبلغ عدد الأشهر الذي استغرق لولادتها.

تجنب البدع في تأليف الحكومة!

ومن الأهمية بمكان ان تشكل الحكومة، بمختلف وزرائها، وحدة منسجمة ومتفاهمة في العمق، و"إجرائية" حسب الدستور اللبناني، حول سياسة الدولة في شتى المجالات (خارجية، دفاعية، اقتصادية...). يترجم الإنسجام بين أعضاء الحكومة بإستراتيجية جامعة، واتفاق على القضايا الأساسية، يتجسد بالبيان الوزاري الذي تتقدم به في مهلة 30 يومًا من صدور مرسوم تشكيلها. والبيان الوزاري هو خطة الحكومة التي تعرضها على مجلس النواب لنيل ثقته. وكل خطة تفترض تحديد أهدافها بصورة واضحة، وتعيين المشاريع المتفق عليها بدقة، وبرمجة مهل زمنية لإنجازها، واختيار الوسائل المناسبة والخطط البديلة، وأخيرًا المباشرة بتنفيذ ما تعهدته الحكومة حال الفوز بثقة المجلس. علمًا ان البيانات الوزارية في لبنان تفتقر إلى الكثير من العناصر المشار إليها.

من إنحرافات الممارسة الدستورية ما حمله اتفاق الدوحة من ترتيبات ظرفية ("في هذه الظروف") لا يجوز ان تتحول تقليداً، بحيث أُعطي رئيس الجمهورية عددًا معينًا من المقاعد لتعيين وزراء يختارهم بنفسه. العرف المعمول به في لبنان أن يختار رئيسا الجمهورية والحكومة الوزراء في إستشارات تجرى مع النواب والكتل النيابية.

من الأخطاء الجسيمة إعادة تكرار تجربة الحكومة على شاكلة برلمان مصغّر لإلغاء المعارضة ومبدأ المحاسبة، أو العودة إلى البحث في المحاصصة أو الفيتو أو وضع أصابع الخليفة المفترض في تشكيلها لأنها تُنتج نموذج حكومة مناكفة ومقاطعة وتبادل منافع على حساب العمل والانتاج.

صحيح ان الدستور لم يحدد مهلة للرئيس المكلف لتشكيل الحكومة، إلا ان الظروف الاستثنائية الصعبة التي تعيشها البلاد والحاجة القصوى إلى منع وقوع الانهيار الكارثي تحتم الإسراع في تأليفها دون إبطاء، وبأسرع ما يمكن حفاظًا على النظام العام وعمل المؤسسات الدستورية واستعادة مناخات الثقة وإضفاء الأجواء الإيجابية والتعاون ولاسيما صورة العهد وعناوين خطاب القسم.

إن الإجراء الوحيد الذي يعيد الثقة هو الإسراع في تشكيل الحكومة، ولا شيء غيره. أما التلهي باجتماعات أخرى فإنه يعني أمرًا واحدًا هو استمرار المخادعة وتسريع الإنهيار.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم