ترامب والصين... استدارة عن الاستدارة

ربطت الكاتبة السياسية رنا فوروهار بين الليونة الكلامية الأخيرة لوزيري الدفاع والخارجية بيت هيغسيث وماركو روبيو حيال بكين، والمذكرة المسربة عن البنتاغون التي تقترح ضرورة التركيز على القضايا الداخلية والإقليمية، لتظهّر انعطافة أميركية تجاه الصين.
وكتبت فوروهار في "فايننشال تايمز" الإثنين أن مسؤول السياسات في البنتاغون إلبريدج كولبي الذي كان من أبرز مؤيدي "الاستدارة إلى آسيا" ساهم على ما يبدو في صياغة المذكّرة الأخيرة.
مفاجأة؟
لا تحمل هذه الكلمات نبأ جديداً. هي فقط تؤكد مساراً بطيئاً لكن ثابتاً من العشوائية الأميركية في السياسة الخارجية، بخاصة مع الإدارة الحالية. تطرق كثر إلى فكرة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتّبع في أوكرانيا "سياسة نيكسونيّة معكوسة" عبر التودد لروسيا كي يبعدها عن الصين، وذلك من أجل تخفيف العبء عن واشنطن في آسيا. فنّدت "النهار" سابقاً هذا الادعاء الذي يمنح الإدارة الأميركية استراتيجية كبرى حيث لا استراتيجية لديها. قد يملك بعض المسؤولين في الإدارة مثل كولبي وروبيو وهيغسيث خططهم الخاصة، لكنهم يخضعون في الأخير لرؤية (أو لا رؤية) ترامب.
وتواجه فكرة أن ترامب يريد تقييد الصين مشكلة إضافية، حين يكون أفضل أصدقائه الأوروبيين، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، على علاقة اقتصادية ممتازة معها. فالمجر أضحت أقرب شريك لبكين في الاتحاد الأوروبي. سنة 2024 مثلاً، ارتفع حجم التبادل التجاري الثنائي بأكثر من 11 في المئة عن السنة السابقة.
ويوم الجمعة، ذكرت "واشنطن بوست" أن الإدارة أوقفت مساعدات عسكرية فتاكة بقيمة 400 مليون دولار إلى تايوان قبل اتصال ترامب بالرئيس الصيني شي جينبينغ. أرخى ذلك بثقله على معرض للأسلحة في تايوان إذ بحث أحد المسؤولين سريعاً في "غوغل" عن الخبر حين سئل عن ذلك. ومنعت واشنطن مؤخراً الرئيس التايواني لاي تشينغ-ته من عبور أراضيها للتوجه إلى أميركا اللاتينية.
قلق الخبراء
تعتقد رنا فوروهار أن وراء هذا "التغير" أقْلَمة النظام الدولي واعترافاً بأن أميركا لا تملك القدرة العسكرية لحماية العالم. يمثل السبب الأول تفسيراً أفضل من الثاني لفهم بعض تصرفات واشنطن. فالضعف الأميركي النسبي لا يبرر التخلي عن آسيا وأوروبا للاهتمام بأمن القارة الأميركية. سيمثل ذلك عودة طوعية ومجانية بنحو 200 عام إلى الوراء. حتى القوى الأوروبية التي خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية لم تتخلَّ بهذه السهولة عن نفوذها الدولي.
وفي تموز/يوليو، سمح الرئيس الأميركي لشركة "أنفيديا" باستئناف تصدير رقائق متطورة ترتبط بالذكاء الاصطناعي إلى بكين. اللافت للنظر هو الترحيب الفاتر للصين بالقرار الأميركي. رأى نحو 20 خبيراً أميركياً في مجال الأمن القومي أن تلك الخطوة تشكل خطراً على التفوق العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي. مجدداً، إنها المخاوف نفسها من تقديم الإدارة تنازلات للحصول على أهداف غير مضمونة. حدث كل ذلك من أجل تسهيل إبرام اتفاق تجاري مع الصين... والصور الجميلة التي ستنقله.
هل قضي الأمر؟
لا يعني كل ذلك أن "الاستدارة" عن "الاستدارة" هي نهائية بالضرورة. فالعشوائية في صناعة القرار تحتّم حالياً استبعاد أي توقع حاسم، لأن الانسحاب من آسيا، بصرف النظر عن مبرراته ونتائجه، يمثّل في نهاية المطاف شكلاً من أشكال القرار السياسي الهادف. إلى حين الحصول على سلوكيات متجانسة صادرة عن واشنطن، يصعب تلمس قرارات أميركية هادفة وثابتة على المدى الطويل.