السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

نيل أرمسترونغ وأنا: اللقاء الذي تأخّر خمسين عامًا

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
نيل أرمسترونغ وأنا: اللقاء الذي تأخّر خمسين عامًا
نيل أرمسترونغ وأنا: اللقاء الذي تأخّر خمسين عامًا
A+ A-

دعوتُ نيل أرمسترونغ إلى العشاء، تكريمًا لأفضاله الشخصيّة عليَّ.

نيل، لمَن لا يعرف، كان صديقي الافتراضيّ، ولا يزال، وقد أنقذني من ضلالٍ مهول، كان ليرتدّ على حياتي بالويل والثبور، عندما كنتُ على وشك الانضمام إلى رحلته الفضائيّة، تحقيقًا لرغبةٍ طفوليّةٍ رافقتْني مذ كنتُ أُمضي الصيف في مسقطي بزيزا، حيث كنتُ أترقّب ظهور القمر كلّ مساءٍ وليل، من وراء جبل متريت المقابل، لأبثّه لواعجي العاطفيّة وهلوساتي الأدبيّة.

نيل، الجميع يعرف أنّه الآدميّ الأوّل الذي نزل على سطح القمر قبل خمسين عامًا، وأنّه بالنسبة إلى شعراء وفنّانين وعشّاق كُثُر محض مجرمٍ منتظَر، كشف عن قناع إجرامه، ليخرّب صوَرًا ومشاعرَ وأحلامًا وتخييلات لن تندمل جروحها أبد الدهر.

قلتُ له، بصفتي شاعرًا، عفا الله عمّا مضى، إنّ الشرفة عندي مفتوحةٌ على نهر العدم، وإنّ القمر سيكون بدرًا كاملًا هذه الليلة، وقد تحدث في حركة الكواكب تغييراتٌ جمّة، من جرّاء الالتباسات الكونيّة في لحظة الاكتمال القصوى.

أكّدتُ له بالوهم الشعريّ، أنّه سيكون سعيدًا في حال قبوله الدعوة، وأنّ زائراتٍ غريباتٍ، لا بدّ والحال هذه من أنْ يأتين لنتسلّى، وقد نرى ما لا يُرى في العادة، وقد نكتشف أمورًا غامضةً عصيّةً على البصر والعقل.

سألني - يا للعجب - عن أحوالي العقليّة والنفسيّة وهل أنا مستعدٌّ للقيام بمغامرةٍ كهذه غير محمودة العواقب، برفقة رجلٍ أقلّ ما يُقال فيه إنّه عدوّ الشعر والشعراء.

أجبتُهُ بلا تردّد أنّ زيارته لي لا بدّ من أن تبدّد الكثير من الغيوم بيننا، له ولي، فضلًا عن كون المغامرات اللامحمودة هي عملي الوحيد، طوال مدّة محكوميّتي، هنا. وسأظلّ أفعلها بشغفٍ ما بعده شغف، على ما أعتقد، لأنّي غير قادرٍ على تغيير ما بي، ولا أستحبّ أنْ تنجرح مشاعري، أو تتدجّن، لأيّ سببٍ، في مقتبل العمر هذا.

كان جوابي صادقًا وسريعًا للغاية، على رغم أنّ ردود أفعالي قد تُصاب أحيانًا بجنون الحكمة، فتدعوني إلى التبصّر في أحوال الدهر، وربّما تحثّني على التريّث، مَن يدري.

على كلّ حال، أجبتُهُ بما معناه أنّي متأهّبٌ تمامًا لارتكاب الهفوات والأخطاء الإضافيّة باستقباله وقبول عروضه، ولركوب مراكب النزق والنزوة التي تمخر عباب العقل بعد منتصفات الليالي. فكيف لا أكون متأهّبًا لذلك، بصحبته، هو الذي رأى القمر، وخاطبه، ولامسه، وأقام معه علاقةً ستظلّ فريدةً في الشكل والنوع، ما دامت الحياة قائمةً على كوكب الأرض.

لن أخسر شيئًا، إذ لم يعد ثمّة شيءٌ للخسران. قلتُ ذلك في قلبي، ولم أشأ أنْ يسمع نيل جملتي الأخيرة. لستُ أدري لماذا.

سألني أرمستروتغ بودٍّ لافتٍ أين أقيم، وهل ثمّة أحدٌ في البيت يساعدني في الاعتناء بترتيب المكان وتحضير الطعام أو الاعتناء بالنظافة. هو لم يكن قد زارني في السابق، ولا أنا كنتُ وجّهتُ إليه دعوةً، على رغم تعارفنا الافتراضيّ منذ خمسين عامًا.

لماذا لم أدعه يومًا إلى بيتي؟ ربّما لأنّي لم أستسغ يومًا كشاعر فكرة صعوده في تلك المركبة العجيبة لتفقّد القمر وفضّ عذريّته. لم أعد واثقًا من ذلك، البتّة.

ألحّ أنْ يجلب معه أشياء مختلفة، لزوم الجلسة والسهرة. أجبتُهُ أنّنا سنكون على أحسن ما يُرام، على طريقة "فلاّح مكفي سلطان مخفي"، وسنكتفي ببعض المقبّلات الريفيّة الخفيفة، صحبة نوعٍ نادرٍ من الويسكي يأتيني به صديقٌ كلّما عاد من سفر.

قلتُ لي أنْ يكون مستعدًّا على المستوى النفسيّ، لأنّي سأقرأ له بعد أنْ يلين المزاج، مقاطع قليلة من ديوانٍ لي عن القمر، إذا كان يتقبّل الفكرة ويستسيغها.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلًا، عندما قرع نيل الباب.

بدا في منتهى لياقته البارقة، وكأنّه لا يزال ذلك الفتى الذي كانه قبل خمسين عامًا.

لا أعرف حقًّا كيف كان وقعي عليه، ولا هو أبدى أيّ انفعالٍ أو استغراب لدى رؤيتي، كأنّنا سبق لنا أنْ تجالسنا مرارًا وتبادلنا الأحاديث والأفكار تكرارًا.

عندما اتّخذ كلٌّ منّا مكانه على الشرفة، جعلتُ وجهه يقابل جبل متريت، وفراغ السماء، التي بدتْ مزهوّةً بنفسها تلك الليلة.

أخبرني أنّه وحيدٌ للغاية، وربّما يشعر بالندم بسبب تلك الرحلة التي أفقدتْهُ مواهب التخييل والحلم، وصنعتْ منه كائنًا كسيح الروح والرغبات.

قلتُ له رأيي الصريح في تلك الرحلة التي ضجّ بها العالم، وخيّبتْ أملي على المستوى الشعريّ (لا العلميّ طبعًا)، ثمّ صببتُ له ولي كأسَين عارمتَين من تلك الويسكي.


سألني عن أحوالي فقلتُ له إنّي أمضيتُ المدّة القصوى من محكوميّتي على الأرض وأنا أراقب القمرَ، وأعيشه، من حيث أنا، وربّما آن الأوان لكي أغادر لأنّي ضجرتُ، لا من الشعر ولا من رؤية القمر، بل من حياتي الضئيلة، التي ربّما تستحقّ أكثر ممّا أعطيت.

لكنّي اعترفتُ له بأنّي على رغم الضجر، لا أعرف أنْ أغادر هذا المكان، وربّما أكون لا أريد في قرارتي أن أغادر.

شبّهني نيل بشجرةٍ رعناء، تعشق ظلالها، وتنتظر ولادة هذه الظلال في الليل وبزوغها في النهار، ولا ترغب في أنْ تتخلّى عن هذه الإقامة.

أكّد لي نيل، أنْ لا صحّة لرغبتي في المغادرة، وأنْ تلك مجرّد نزوة لشاعرٍ لا يكفّ عن إبداء الضجر، حتّى لو أُعطيَ بساطَ الريح، ومالَ الدنيا، وحظيَ بتحقيق الرغبات كلّها، المعلومة وغير المعلومة.

ربّما أكون امتعضتُ في البداية من وصفه لي بأنّي شجرةٌ رعناء. ثمّ انفرجتْ أساريري فجأةً وقد سررتُ حقًّا في أعماقي، لأقواله فيَّ، لسببٍ أجهله تمامًا.

قال لي على سبيل المزاح إنّي أشبه جنينًا خارجًا للتوّ من الرحم، فحزنتُ للغاية لأنّه فضح ما بي.

أنا حقًّا جنينٌ لا أكفّ عن الخروج من الرحم، واعيًا كلّ مرّة، أعباء الخروج من الرحم، وترّهات الشرط البشريّ.

اقترب قليلًا وأسرّ في قلبي شيئًا لم يشأ أنْ تسمعه الكائنات المريبة. ربّما قال شيئًا لم يشأ أن أدرك أنا كنهه. كما لو أنّه أراد أنْ يُرشدني إلى حجرٍ فلسفيّ على سطح القمر، أو إلى شبهة ماء.

قلتُ إنّي تعرّفتُ إلى القمر من حيث أنا، وإنّي عشته في مدركات عقلي وقلبي، وبتُّ أعرف ذلك المكان جيّدًا إلى درجةٍ أنّي كلّما أغمضتُ عينيَّ رأيتُهُ برمّته، لا ماثلًا أمامي بيبابه وصخوره ووهاده، بل برغيف ضوئه المستدير وجرح هلاله النازف.

خلال تبادل الرأي، حول ندمه المستوحش وحول رغبتي في المغادرة، عبثًا دعوتُهُ إلى عدم الندم، محذِّرًا إيّاه من مغبّة التأثير السلبيّ الذي يُحدِثه في أولاده وأحفاده وفي أجيال العالم، مذكِّرًا هذا الرائد بأنّ رغبة العيش في خلاء العدم أو في متاهة الهواء، حيث لا بشر ولا جنّ، يماثل هلوسات الشعراء. فلم يذعن.

ثمّ، كأنّه شاء أنْ يعنّفني بصوته الأجشّ، عرض عليَّ لكنْ بحنانٍ وشفقة، مشاهدة فيديو يُظهِر كوكبه المعتم على حقيقته، ويكشف في المقابل كوكب الأرض، لا كبرتقالة الشاعر الفرنسيّ (بول إيلوار طبعًا)، بل كجريمة. فاستسلمتُ للمشاهدة، وسألتُهُ أنْ يعطيني نسخةً من الفيلم. فأبى.

قلتُ له إنّي أستعير القمر باعتباره موضوعًا مثيرًا لمأساة الكائن وللشجن الكوكبيّ على السواء، وإنّ القمر يستعيرني باعتباري وسيطًا لمخاطبة الإنسان الساقط على كوكب الأرض.

سألني نيل هل تمنحني الكتابةُ الإحساسَ الغامض بأنّي بارعٌ في تحريك الهواء الفارغ واختراع الصوَر، وهل أنا يا ترى، أمنحها من جهتي الإحساسَ بأنّها فراشٌ وثيرٌ للمحتاجين إلى تكثيف النعاس في الأرض؟

أذهلني سؤال نيل، وأبكمني. إذ، كيف لرجلٍ بلا أحلام مثله، موصومٍ باغتصاب الكوكب، أنْ يطرح سؤالًا شعريًّا كهذا، لا بدّ أنْ يثير غيرة الشعراء.

قلتُ له إنّي تعرّضتُ وأنا صغيرٌ للغاية إلى كدماتٍ دماغيّة، حين تدحرجتُ من أعلى السلّم الحجريّ إلى أسفله، فصرتُ مذذاك موهوبًا برؤية ما لا يُرى، على قول طبيبٍ معالج.

وأضفتُ أنّي صرتُ كلّما نظرتُ إلى القمر، رأيتُ أنّه يدعوني بإلحاحٍ إليه، لكن لا هو يفسح لي أنْ أغادر، ولا أنا أعرف سبيلًا إلى ذلك.

ضحك نيل. ثمّ أخبرني أنّه يحاول أنْ ينام عميقًا جدًّا، النوم الطبّي المراقَب بالآلات، ليستعيد صورة القمر الأولى قبل أن تطأها قدماه، لكن بدون جدوى.

ثمّ دعاني إلى لقاءٍ قريبٍ في بيته، قبل أن يغادر القمر، في أواخر الفجر، جبلَ متريت، ويترك صورته المرميّة وراءه في نهر بزيزا.

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم