الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

آليات النقد بين الكشف عن الجمال وطمره

خليل عاصي
آليات النقد بين الكشف عن الجمال وطمره
آليات النقد بين الكشف عن الجمال وطمره
A+ A-

كلنا يستطيع تذوق الجمال والانتشاء به، لكن ما هي معاييره، تعريفه، ما هي مواده وعناصره، ومن أين له قدرة الاستحواذ على المشاعر والعبث بها؟

لا يمكن أحداً أن يدّعي تعريفاً كاملاً وتامّاً للجمال مهما اقترب من تفسير تمظهراته وآثاره الداخليّة والخارجيّة.

يقول الأب أوغسطين "ما هو الزمن. إذا لم تسألوني ما هو، فإنني أعرفه. وإذا سألتموني ما هو، فإنني لا أعرفه". ويصحّ أن نقول ذلك عن الجمال والحبّ والألم والسعادة، وكل ما يتصل بالذات الشعورية عند الإنسان أيضاً لأنها تُحَسُّ ولا تُدرَك.

وبالتالي، أليس ما يسمى بالنقد والمناهج الخاصة به، ما هو إلا محاولة للتنقيب عن الجمال لكشفه استناداً إلى تعريفات يعترف الجميع بنقصانها؟ إذا صحّ ذلك، أليس ما كانت منطلقاته ومقدماته ناقصة وغير أكيدة ستكون خواتيمه صورة مشوهة عن الأصل مهما دلّت عليه؟ إنطلاقاً من ذلك، وطالما أن آلة التنقيب عن الجمال هي حسيّة بالقوة أولاً، فإن كل من استطاع الدخول على النص مزوداً بتقنية 4D حسيّة، سيكون ابن بيئته (النص) وواحداً من مواطنيه، ليعيش فيه اللذة والألم والدهشة.

أؤمنُ بأنَّ المناهجَ النقديةَ استقراءٌ متحركٌ للإبداعِ والجمالِ (على طريقةBARCODE-READER، كلما تغيرت تقنيةُ "الباركود" يجبُ أن يتغيرَ "الريدر") فالنقدُ لا يمكنُ أن يكونَ ثابتًا، لأن الفنَّ خلقٌ كونيٌ متحركٌ دائمُ التغيُّر والتطورِ، وعلى آليات النقدِ أن تجاريه في حركتِه ومحاولة فهمه، وهنا تبرزُ مشكلةٌ مهمةٌ تكمنُ في أنَّ النقدَ يأتي لاحقًا، وهذا يعني أنَّ أيَّ انزياحٍ إبداعيٍّ جماليٍّ جديدٍ، سيكونُ نقدُه بالمناهجِ المتاحةِ والموجودةِ ناقصًا - وهذا إذا سلّمنا بصحة التعريف والمنهج- قبلَ أنْ يَنوجِدَ المنهجُ الجديدُ الذي يلحظُ ذلك الانزياح. لذلك، فإنَّه يمكنُ لكلِّ قارئٍ أن يَخلُقَ منهجَه النقديَّ الخاصَّ شريطةَ أن يستبينَ ذوقيًا مواطنَ الجمالِ التي تتخطى الفردانيةَ الذاتيةَ - بعد تذوقِها طبعًا- إلى الذوقِ العامّ، لأن الجمالَ مساحةٌ تتلاقى فيها الأرواحُ لتتشاركَ النشوةَ. نعم ، قد تختلفُ معاييرُه (الجمال) ومنسوبُ تلقّيْه بعد امتزاجِه بالنفسِ البشريةِ، إلا أنَّه يبقى جمالًا مسلّمًا فيه باختلافِ النِّسبةِ والمنسوبِ، وبحسب بطانةِ تلك النفسِ ومقدارِ شفافيتِها وجاذبيتِها.

يؤكِّدُ على هذا الكلامِ "إيمانويل كانط" (مؤسسُ فلسفةِ الجمالِ في العصرِ الحديثِ) في كتابَيْهِ: نقدُ العقلِ المحضِ ونقدُ العقلِ العمليِّ، حيث يقول: "إنَّ القضيةَ الجماليةَ ليست أخلاقيةً ولا معرفيةً بل ذوقيةً مرهونةً بالذاتيِّ والجماليِّ الذي يُحقِّقُ الاستِحسَانَ لدينا، وذلك يكونُ عندما نتمعَّنُ في شيءٍ جميلٍ دون أن يرتبطَ غائيًّا بأيِّ نفعٍ خارجيٍّ". يقول أيضا "لكي نميزَ الشَّيءَ الجميلَ من غيرِه، فإننا لا نعيدُ تَمثُّلَ الشيءِ إلى الذهنِ من أجل المعرفةِ، بل إلى مخيلةِ الذاتِ وشعورِها باللذةِ والألمِ، وبالتالي ليس منطقيًا بل جماليٌّ، ونعني بذلك، أنَّ المبدأَ الذي يُعيِّنُه لا يمكنُ أن يكونَ إلا ذاتيًا". إذاً، هو ذاتيٌّ أولًا، يختلفُ باختلافِ الذاتِ وتَقلُّبِ الحالِ فيها، كما عبَّرنا سابقًا، لكن "كانط" يُكملُ ليقول "إنَّ لأحكامِ الذوقِ صفةً كليةً تتّسِمُ بالحسِّ المشتَركِ بين البشرِ إنْ لم يَكُنْ من حيث موضوعِ الجمالِ فهو بالتالي في الحكمِ الذوقيِّ ذاتِه لأننا نستطيعُ أنْ نطلقَ بحقٍّ تسميةَ الحسِّ العامِّ على الذوقِ أكثرَ من تسميةِ الحسِّ السليمِ" لماذا؟ لأن الجمال ليس معرفيًا ولا أخلاقيًا. وحتى هيغل أيضاً يقول ما معناه أن الجمال يقع في منتصف الطريق بين الحسّ والفكرة، وبأن الفنّ يُدرَك بالحواس لا بالعقل.

وبالتالي، فإن ملكةَ الحكمِ الجمالية هي أكثرُ جدارةً من ملكةِ الحكمِ العقليةِ بحملِ حسٍّ مشتركٍ، لماذا؟ لأنَّ الذوقَ إذًا، هو ملكةُ الحكمِ قبليًا على قابليةِ تبليغِ المشاعرِ المرتبطةِ بتَمثُّلِ معطىً ما، من دون وساطة مفهوم، أو بناء "بلوكات" معرفية.

وهنا السؤال: هل دورُ الناقدِ إلا تبليغ مشاعرِ الكاتبِ أو الفنَّانِ واستقراؤها بشكلٍ عامّ؟ وهذا ليس انتقاصًا من النقد الذي أعتبره نصًا إبداعيًا مُوَلَّدًا من نصّ إبداعيّ، وبالتالي، إن ما ينطبق على النصوص الإبداعية المُنتَقَدَة يجب أن ينطبقَ عليه أيضاً (نقد النقد موضوعيًا وجماليًا).

قد يُشكِلُ البعضُ على "كانط" بأنَّه متناقضٌ في نظريتِه، حيث يقول إنَّ الجمالَ ذاتيٌّ ومن ثَمَّ يقول إنَّه ذوقٌ عامٌّ يتشاركُ فيه البشرُ. ولكن، إذا تمعنَّا مليًا، نجدُ أنَّ كلامَه لا يجافي الحقيقةَ، إذْ إنَّ الذوات البشريةَ الفردانيةَ تشتركُ في كمالاتِها الأولى في الأمورِ الجماليةِ والذوقيةِ، فليس هناك مَن لا تجذِبُه وردةٌ ومن لا يُدهشُ لصوتِ عصفورٍ ولا يأسُرُه منظرُ الطبيعةِ أو يأخُذُه خرير نهرٍ أو أو..... لكن، نعم، قد يختلفُ مَن يجتمعُ على كلِّ ذلك حول نظريةٍ معرفيةٍ أو منهجٍ نقديّ.

أسأل؛ أليس الالتزام حرفياً بالمناهج النقدية المستوردة والتي قد تتقاطع في مواضع كثيرة مع نصوصنا، يُشكّل عائقاً وحائلاً دون توليد مناهج أكثر قرابة وشبهاً بالخارطة الجينية للنص العربي؟

ألا تُعتبر البيئة المُنشِئة للنص لاعباً رئيساً في تَشكُّل إبداعه؟

أخيراً، إذا كان النقد إبداعاً، أليس من ضرورة الإبداع التمرّد على السائد والمألوف وبالتالي المنهج؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم