الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"السباق الرئاسي" المذِلّ والمدمِّر

غسان صليبي
"السباق الرئاسي" المذِلّ والمدمِّر
"السباق الرئاسي" المذِلّ والمدمِّر
A+ A-

لا يشبه "السباق الرئاسي" سباقا سياسيا. لا البرامج مطروحة ولا اقناع الناخبين في البال، وخصوصاً ان الانتخابات الرئاسية لا تزال بعيدة، وهي تفترض ربما إجراء انتخابات نيابية قبلها.

حتى ان المتسابقين لا يُقرّون بأنهم في سباق رئاسي. فلولا سلوكهم لما عرفنا انهم في سباق. هم يشبهون من يوقف السير على طريق عام مليء بالزحمة، ليجرب سرعة سيارته. فعلى رغم زحمة المشكلات التي باتت تهدد مصير الوطن ومعيشة اهله وصحتهم، ترى المتسابقين على الرئاسة يتلهّون بافتعال مشكلات جديدة لا هدف لها سوى استعراض عضلاتهم.

لكن "السباق الرئاسي" يشبه اكثر ما يشبه حفلة ملاكمة، ارتضى الملاكمون فيها ان تجري امام مشاهد واحد، بدون حلبة، بدون حكم، وبدون وقت محدد سوى موعد انتخاب الرئيس. وخصوصاً بدون قواعد تحدد الرابح والخاسر. وبموافقة الملاكمين، لا بل بطلب منهم، وحده المشاهد الاوحد يقرر ان يصفق او لا يصفق، ومتى يصفق، ولماذا يصفق.

وبالتراضي بين الملاكمين ايضا، وحده المشاهد الاوحد يعلن النتيجة، قبل ان يعممها على الناخبين وعلى الجمهور ليشاركوه التصفيق.

ليس مطلوبا من المشاهد الاوحد ان يراقب من هو الاقوى، من هو الاجدر، من هو الاحذق.

مطلوب منه ان يراقب من هو الاقدر على التقاط معاني التصفيق، في مدته وتقطعاته ومدلولاته.

السباق الرئاسي يشبه الملاكمة، لانه يتطلب حركة دائمة وقفزا مستمرا، وتحطيم رؤوس وشتائم وتشويها للوجه وبعض الدماء، والكثير من التصفيق طبعا.

السباق الرئاسي ليس بالضرورة سباقا بين متسابقين، بل سباق مع الزمن، زمن المشاهد الاوحد.

يمكن المتسابق ان يكون وحيدا وبدون خصم، ويمكنه حتى ان يلكم بقبضته شخصا غير متسابق او عابر سبيل، المهم الا يتوقف المتسابق عن الحركة والقفز، ولو في مكانه، طالما ان المشاهد الاوحد لا يزال جالسا على كرسيه يشاهد اللعبة.

لذلك يبدو بعض المتسابقين كأنهم في نشاط دائم لا بل مفرط. معروف ان "النشاط المفرط" هو حالة مرضية عند الصغار تستوجب أخذهم عند طبيب. لا اعرف اسباب "النشاط المفرط" عند الكبار وما اذا كان يستدعي ذلك استشارة طبيب. ما اعرفه هو ان "النشاط المفرط" عند الصغار يؤدي في بعض الاحيان الى تخريب في البيت، وكل الخوف ان يؤدي "النشاط المفرط" عند الكبار، وخاصة عند السياسيين، الى تخريب البلد.

السباق الرئاسي ليس سباقا من اجل تولي الرئاسة، بل هو تسابق على إرضاء المشاهد الاوحد، الذي يقرر من يستحق ان يوليه هو على هذه الرئاسة.

إرضاء المشاهد الاوحد، يفترض عدم ازعاجه او احراجه. لذلك يجب الا نستغرب ان يجيب احد المتسابقين حول ما اذا كان مرشحا لرئاسة الجمهورية "ان طالب الشيء فاقده وخاصة في هذه المرحلة". فإذا كان من الطبيعي ومن الواجب في انتخابات ديموقراطية ان يعلن المرشح ترشحه صراحة و"يطلب" من الناخبين انتخابه، الا انه "في هذه المرحلة"، اي عندما يكون هناك ناخب واحد، فمن المحرج جدا لا بل من الوقاحة ان يطلب منه المرشح انتخابه، لانه في هذه الحالة يخاطر بـ"فقدان" ما يطالب به "ضمنيا".

لكن عدم المطالبة بالرئاسة، لا يعني التوقف عن الكلام. على العكس فقد يلجأ المتسابقون، الى الاكثار من الكلام عن كل شيء ما عدا عن الرئاسة.

ولأن الاطار الذي يجري فيه السباق يشبه حلبة ملاكمة، ولأن المتسابقين ملاكمون غير متمرسين، يأتي الكلام كاللكمات غير المدروسة، اي في أحيان كثيرة "خبط عشواء".

ترى مثلا احد المتسابقين يقول عن مفهومه للانتماء اللبناني "انه جيني وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معا ولرفضنا معا النزوح واللجوء".

واذا كانت النظرية "الجينية" شكلت على الدوام الاساس الايديولوجي للاتجاهات العنصرية، ومن بينها الفاشستية والنازية، فإن المنظّر لمفهوم الانتماء اللبناني اعلاه، يستغرب كيف انه "للاسف هناك من لا يفهم ماذا يعني ان تكون لبنانيتنا فوق كل شيء، وماذا يعني ان نشعر برابطة الدم، وماذا تعني عبارة "الارض بتجمع" وماذا يعني ان الانتماء اللبناني هو إنتماء لحضارة وتاريخ".

طبعا، كثيرون لا يفهمون هذا الخلط العشوائي بين الانتماءات: البيولوجية والجغرافية والثقافية والتاريخية. ولا يفهمون بالتأكيد كيفية التوفيق بين "الانتماء الجيني" والانتماءات الجغرافية والثقافية والتاريخية، ولا سيما ان هذه الانتماءات الثلاثة الاخيرة، تناقض اساس الانتماء الجيني، وتقرب اللبنانيين من إنتماءات وطنية اخرى، واهمها انتماءات أبناء النزوح واللجوء الذين تجمعنا بهم الجغرافيا والثقافة والتاريخ.

ليست هذه "الهجانة" في الفكر وهذا الالتباس في المفاهيم، مجرد نتيجة لتصرف بعض المتسابقين وكأنهم في حالة دائمة من استعراض للعضلات الطائفية و"الوطنية". بل هي على ما اظن، انعكاس للهجانة وللالتباس في الموقع السياسي لهؤلاء المتسابقين.

فـ"التفاهمات" و"التسويات"، التي حددت بدورها المواقع السياسية، اتت في معظمها كترجمة لموازين قوى، او لعدم توازن في القوة، ولم تأت قط نتيجة قناعات تبدلت عبر الزمن بشكل فاقع. وهذا ما يجعل الكثير من الخطب السياسية ومن المواقف عند بعضهم، كثيرة التناقض: مع تحرير القدس وضد اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم، مع النظام السوري وضد النازحين السوريين، مع العلمانية ومع ترسيخ المحاصصة الطائفية حتى في النقابات، مع السيادة الوطنية ومع الالتحاق الكامل بمحور إقليمي معين.

ربما يكمن السبب ايضا في العجز عن انتاج خطاب متماسك عند بعض القوى، انها في معاركها لا تعتمد على قوتها الذاتية بل على قوة غيرها، مما يجعلها عاجزة عن ابتكار ايديولوجيا ومفاهيم خاصة بها، تعكس بشكل متجانس، خصوصية موقعها ومصالحها.

انه بدون ادنى شك، او اي مواربة، تسابق رئاسي مُذِلّ، للمتسابقين وللموارنة وللمواطنين وللنواب وللدستور وللديموقراطية وللرئاسة الحالية ولموقع الرئاسة بشكل عام.

لا إبالغ اذا قلت، انه تسابق مُذِلٌّ ايضا لسمعة ورمزية المشاهد الاوحد، الذي تعوّد الانتصار من خلال الجهاد والمقاومة، وليس من خلال لعب دور المشاهد الاوحد، في مسلسل من المشاهدات المملة.

فعندما تكون مشاهدا أوحد، تتحول حكما الى شاهد أوحد على ممارسات الملاكم الذي يحاول ان يرضيك، وتتحمل بالتالي امام الرأي العام عن حق او عن خطأ، مسؤولية اللكم والشتم والتعديات والإساءات.

وعندما يتحول الملاكم الى مشروع مستبد، تطالك الاتهامات الكبرى، وأقساها بالطبع انك تستخدم سلاحك في الداخل.

فمع عودة الكلام عن "المارونية السياسية" في سياق استعراض القوة عند المتسابقين، والاساءات المتلاحقة إلى الطائفة السنية، وقبلها إلى الطائفة الدرزية، والاساءات المستجدة إلى بعض البلدان الخليجية، يصبح "السباق الرئاسي" خطرا على المسيحيين، قبل ان يكون على لبنان.

للتذكير، ان من اسباب خسارة المسيحيين صلاحيات رئاسة الجمهورية والكثير من المواقع، مكابرة المارونية السياسية ابان الحرب ورفضها تقديم تنازلات، وايضا وخاصة بسبب حروب اطراف المارونية السياسية الحالية في ما بينهم، وذلك في إطار الصراع على موقع الرئاسة تحديدا. لعل بعضهم يخاطر اليوم بخسارة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، اذا ما استمر هذا البعض في امتهان الاستفزازات الطائفية والوطنية.

لقد قيل ان الشاهد الاوحد نصح بالتهدئة بعض المتسابقين على الرئاسة.

ارجو ان يكون الشاهد الاوحد قد تلمس حجم الخطر، فهو يعلم بالتأكيد ان حفاظه على موقع الشاهد الاوحد، يفترض بقاء ملاكمين موارنة اقوياء. وهو يعرف ان التجييش الطائفي، اذ يقوّي حلفاءه المسيحيين على المدى القصير، انما يضعفهم بالتأكيد على المدى البعيد، في ظل توقع اتساع عدم التوازن العددي بين المسيحيين والمسلمين.

ليس على الشاهد الاوحد بالتالي، سوى ان يرفق بنصيحته، وقفا للتصفيق للمتسابقين من قبله.

وإذا اراد ان يخطو خطوة اضافية الى الامام، واعتقد ان هذا لمصلحته الاستراتيجية الوطنية والامنية في ظل الهجمة الاميركية، فمن الافضل الا يبقى شاهدا اوحد. لانه اذا استمرت الامور تسير على النمط الحالي، فسيكون عليه الاختيار في وقت ليس ببعيد، بين ان يكون شاهد زور، او ان يكون شاهداً "ما شفش حاجة".


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم