الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ساحلٌ جاوَرَ الآكام

جورج أبو خليل
A+ A-

سقى الله أيّام زمان؛ إنّها خزانة الذكريات، كلّما فتحتها فاحت في أرجاء النفس رائحة مضمّخة بعبيرِ الحنين. والذكريات جزء من كيان، هي الأنا العائدة إلى الماضي، المستحضرة الأحداث من وراء غبار السنين، وما يميّزها عن التأريخ الجاف أنّ فيها نبضًا من حياة.

وفي كتابه "منطلق تاريخ جونيه المعاصر – تاريخ ساحل علما الحديث" كان الأستاذ جوزف مسيحي موغلاً في التذكّر، ولو اكتسى بحلّة التاريخ وعزّز الأقوال بالشواهدِ وثائقَ ومستندات. رسم صورًا، نقل مشاهد، فتح الأنظار على دروب العجلات ودروب الحافر ودروب الإجر، والأدراج، ودرب النبع، ودرب السما، والمدرج الطبيعي، وحقل السمك المتحجّر قرب دير مار جريس.

سلّط الضوء على العائلات - وبلدته ساحل علما أقدم تجمّع سكني في منطقة جونيه - أعطى الأعلام حقّهم، ولم ينسَ الوافدين. قاده الشوق إلى سياسات جدّه " وستّه " الصحّية والاقتصادية، وقصّة جدّه المختار حبيب برهوش وثياب الشغل والقنباز؛ إلى الأحاديث، وما كان فيها من تقييم وقيَم، إلى الحرفية في التطعيم والتشحيل، وتحضيرات الأعياد، وما يلازمها من تحضّرٍ روحيّ لاستقبالها، وترقّبات الطقس، وانتظار عصفور العابور، إلى هموم الضيعة قبيل مواسم الحرير وماء الزهر، وموسم المشمش الّذي أصابه البوار، وانقضى معه زمن جميل، كان فيه الناس يستدينون على المشمش، فيوفون الدين بعد قطاف الموسم؛ وتراني أُطمئن أستاذي، فقد خبرنا ذوق زوجته قبل أن تتفنّن في صناعة شراب المشمش.

ولا تقف رفوف خزائن الذكريات عند حدّ، بل ترى اليد تمتدّ إلى عناقيد الفن والجمال، فتقطف ذكرى انتخاب ابنة البلدة، ليلى ساروفيم، أولى ملكات الجمال في لبنان عام 1952، وتستعرض بواكير الشعر العامّي والزجل. ويتابع المشوار عبر الزمن فيعرّج على مدارس البلدة وجمعيّاتها وأخويّاتها، من الفرقة الفنية، إلى تعاونية المؤاساة بالوفاة، ونادي السلام الرياضي، والهيئة النسائية الخيرية، والندوة الاجتماعية، والحركة الكشفية. وكنيسة مار نوهرا وقصّة مذبحيها، والتخلّص من امتيازات الإقطاعيّين.

لم ترقه اتّهاماتٌ تطلق في غير محلّها، فانبرى يدفع تهمة البخل بقصّتي "اللحاق بالدبّور إلى الرصيف"، "وبيطرة الديك"، ويضع حدًّا للمفاهيم المغلوطة عن " الغريب"، فإذا بالمقصود الغرباء عن المنطقة الّذين كانوا يسعون إلى نشر الفكر البروتستانتي بين الناس، وكان أمرًا مستهجنًا، في حينه، وسط بيئة مذهبية معروفة، جعل المطران يوحنّا الحاج، البطريرك لاحقًا، يحذّر من تمادي هؤلاء. وتبديدًا للّغط السائد، أورد واقعة بناء كنيسة مار يوسف في سوق جونيه، بسعي من النائب البطريركي المطران يوسف نجيم للتجّار الغرباء الّذين يأتون إلى المرفأ لاستيراد البضائع وتصديرها، وكان الأمر يستغرق أيّامًا، ولم تشيَّد مدافن قربها، ممّا يعزّز تبرير فكرة إنشائها، خدمةً لهؤلاء.

أمّا المياه فتكاد تكون قضيّة القضايا في ساحل علما، ولعلّ مردّ ذلك إلى أنّ هذه الأخيرة كانت ثالث مورد اقتصادي في كسروان والمتن، أيّام كانت الزراعة ذهب المواسم. وأهمّيتها جعلتها مضرب الأمثال، وموضوع تندّر الشعراء، والشغل الشاغل، فينشأ لأجلها نظام خاص معروف بنظام توزيع مياه الري، يُدار بعمل مؤسّساتي، وينظّم توزيع العدادين والدقة في التوقيت والتطبيق، بشكل لافت، يحدّد حتى بالدقائق(خمسة عشر ساعة وثلث)، ويتجنّد له كلّ أفراد العائلة. وتتأسّس جمعيّة "نبع رأس الماء"؛ لا بل أكثر من ذلك، فالأمر يستدعي توسّط الأمير بشير الشهابي الكبير، بواسطة مندوبه الشيخ بشير قاسم جنبلاط لحلّ الخلاف بشأن " خصلة دير بقلوش "، والالتزام بميثاق مكتوب لردّ ايّ تعدٍّ على المياه ، واستصدار حرم كنسي من راعي الأبرشية بحق كلّ من يقوم بعمل يؤدّي إلى الضرر بالماء أو تعكيرها، وإفسادها. فلو كان الأمر في هذه الأيّام لوجب استحداث دائرة خاصّة تتولّى تنظيمه بالنظر لكثرة مستحقّيه.

أمّا حساب الجُمَّل فقصّته قصّة، وهو الّذي يحدّد تاريخ الحدث، من خلال جمع القيمة العدديّة للأحرف الأبجديّة الواردة في البيت الشعري الأخير، بعد عبارة " أرّخ " ومشتقّاتها. ولأنّ على الإنسان أن يحاول، وبعدَها يُعذَر، يبقى المأمول أن أكون قد وُفّقت في تحديد تاريخ صدور هذا الكتاب، وفق حساب الجُمَّل، من خلال البيتين التاليين:

فانٍ هو العُمرُ، والآمالُ أحــلامُ إنْ لم تَكـــدَّ وتتعَــبْ تبــقَ أَوهــامـــا،

حقَّقتَها المُنيَه إذ أرَّختَها جاهِدًا، "أرْشَفتَ"، لِلعُمرِ، أَحداثًا وأَعلاما.

وترانا نفرغ من قراءة الكتاب غير خائفين على حبس الزمان والمكان بين دفّتيه؟ فأعجوبة الكتابة أنّها تحرّر، وتجعل الأوراق تنطق، وتحدّث بالتاريخ والجمال، وها هي معك، يا أستاذي الكبير، تجعل "الساحل" يجاور الآكام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم