الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لا وقتَ للحزن... علينا العمل سريعاً لنجدة المصابين

غسان عزيز
لا وقتَ للحزن... علينا العمل سريعاً لنجدة المصابين
لا وقتَ للحزن... علينا العمل سريعاً لنجدة المصابين
A+ A-

ولدتُ في العراق عام 1982، وتخرجت من كلية الطب في جامعة بغداد عام 2006. في تلك الفترة، (أي عام 2006) دخلَ العراق في حرب أهلية غير معلنة. وتزامن ذلك مع بدء عملي في وزارة الصحة كطبيب مقيم جديد وقد كان الوضع في البلد حينها صعباً للغاية.

3 إلى 5 انفجارات كانت تهز المدينة في اليوم الواحد وكان ينتج منها نحو 30 إلى 50 جريحاً. وكانت الإصابات تراوح بين جروحٍ بسيطة يسهل علاجها في أقسام الطوارىء وأخرى تحتاج إلى عمليات جراحية.

أذكر تاريخ 10/5/2008 جيداً، في ذلك اليوم، أُعلنَ حظر تجوال فجائي رافقه اندلاع مواجهات حوصرنا على إثرها في المستشفى مدَّة 4 أيام، لم نتمكن خلالها من الخروج منه. في الأيام الأربعة تلك تساوى مجهود العمل بالأعمال التي كنا نقوم بها خلال شهر كامل. يومها، وصلَت إلى المستشفى طفلة (5 سنوات) كانت تلعب في صالون منزل عائلتها، فأصابتها قذيفة من طريق الخطأ أدت إلى بتر قدَمها، واحتاجت ساعات للوصول إلى المستشفيات، وحال الفتاة نموذج عن معاناة عاشها كثر من العراقيين من دون اقترافهم أي ذنب.

في المستشفى، لم يكن عدد الأطباء كافياً نظراً لصعوبة الوصول إليها جراء المواجهات، وبغض النظر عن حب العمل الجراحي أم لا، وجد الأطباء أنفسهم في خضم عمليات جراحية، ومنهم من كان يحتاج إلى مساعدة زملائه رغم سنوات الخبرة. شخصياً، كنت أحبُّ العمل الجراحي ومضيتُ في هذا الطريق وبدأت العمل في الجراحة، والتدرج، وانتقلت بعدها إلى الجراحة البولية.

عام 2010، تركت العمل في وزارة الصحة في #العراق، وتطوعت في منظمة طبية محلية عراقية. عام 2011 بدأت الأوضاع تهدأ وباتت الصدمات أقل. أيقنتُ حينها مدى أهمية العمل في المستشفيات في وضعٍ شبيه بالحرب، وهي الخبرة التي حصلت عليها منذ عام 2006، فهذه التجربة وضَّحت مصطلح "جراحة الحرب" الذي يدخل في سياق عمل منظمة "أطباء بلا حدود" (التي انضممت إليها لاحقاً). العمل في فترة حرب والاستنزاف المستمر لمواد مادية عينية تُصرف في المستشفيات، يضطرك إلى التفكير ملياً في كيفية الاقتصاد لدى استعمال بعضٍ من مواد التعقيم أو الجراحة سعياً للاحتفاظ بالأخرى كاحتياط لحالات طارئة، إذ تعلم الظروف الصعبة العاملين في المستشفيات الاقتصاد في استخدام المواد الطبية خوفاً من استنزافها قبل وصول دفعة جديدة من الجرحى.

نقل المصابين من العراق إلى الأردن

عام 2012، علمتُ بوجود فرصة عمل مع "أطباء بلا حدود"، احتاجت المنظمة حينها إلى طبيب للعمل في بغداد كـمسؤول اتصال مع المرضى – للمساعدة في نقلِ الجرحى الذين اُصيبوا في أطرافهم إلى مستشفى الجراحة الترميمية الذي تديره "أطباء بلا حدود" في #الأردن. هذا المستشفى الذي أنشئ عام 2006 هدفَ لمعالجة مرضى عراقيين، بات يستقبل بعدها جرحى من فلسطين وسوريا، واليمن، وليبيا.

في مستشفى الجراحة الترميمية وجدَت "أطباء بلا حدود" أنَّ المرضى الذين تستقبلهم يعانون من مضاعفات، وتبين لها أنَّه لو تمكنوا من الوصول فور إصابتهم لتلقي العلاج منذ المراحل الأولى كان ذلك سيخفف من تعقيداته. ولذلك، قرروا البحث عمنَ يستطيع إيجاد المرضى الأكثر حاجة للوصول سريعاً إلى المستشفى وكنت أنا هذا الشخص.

في العراق، بحثتُ من خلال صلتي بالأطباء والجراحين عن مرضى يبلغُ عمر إصابتهم أسبوعين أو أقل ليتم نقلهم إلى مستشفى الجراحة الترميمية في الأردن. وبالفعل، أُرسل أول مريض بعد 5 أيام من بداية عملي.

بعدَ بتر قدميه تمكن من المشي مجدداً!

أنشئ مستشفى الجراحة الترميمية في عمَّان عام 2006 وهو يستقبل نحو 450 مريضاً سنوياً، ويحمل هؤلاء المصابون معهم قصصاً يروونها لنا، فيما نتابع مراحل علاجهم الصعبة، التي يتغلبون من خلالها على أوجاعهم للانطلاق من جديد.

إلى اليوم، لا تزال ذكرياتٌ عدَّة محفورة في بالي، منها حالات أثرت فيَّ بطريقة إيجابية وأخرى سلبية. أذكر جيداً طفلاً عراقياً قابلته وكان يبلغ حينها 12 سنة، خسر هذا الطفل أفراد عائلته كافة جراء تفجير، وبقيَ وحده على قيد الحياة - مبتورَ القدمين. وبقيَت له خالته التي كانت تعتني به. كان يردد دوماً أنه لن يتمكن من المشي مجدداً، ولكن بعد سنة من العلاج بدأ بالمشي على رجل اصطناعية، وجاء ليشكرني! أطفال كثر كان حالهم مشابهاً، من بينهم طفلة عراقية عانت من كسور وحروق منذ سن الخامسة أجبرتها على البقاء في مستشفى الجراحة الترميمية 3 سنوات للخضوع لعلاجات متعددة.

العمل بين البلدين

في منتصف عام 2014، اضطررت للخروج من العراق والانتقال إلى الأردن، لأبدأ عملاً جديداً مع "أطباء بلا حدود" مدَّة 4 أشهر كقائد الفريق الطبي في مستشفى توليد في منطقة إربد. كان المستشفى يستقبل حالات رعاية حوامل وولادة ورعاية أطفال.

بعد ذلك، انتقلت إلى العراق مجدداً، حيث عملتُ مدة 4 أشهر أيضاً. في تلك الفترة أجرت "أطباء بلا حدود" تجربة اعتبرت جديدة، حيث كان عملها يغطي منطقة يوجد فيها 200 ألف نازح من الموصل بعد سيطرة تنظيم #الدولة_الإسلامية عام 2014 على المدينة، حيث كانت المنظمة تقدم خدمات الرعاية الصحية الأولية للفئات الأكثر حاجة، وسَعَت إلى جمع معلومات عن الأوضاع المعيشية والصحية والإنسانية لهؤلاء النازحين بأعداد كبيرة وبسرعة عالية.

آنذاك، أجرينا ما يُسمَّى بالتقييم المجتمعي (community based assessment)، حيث استخدمنا أداة جمع البيانات عبر أجهزة متنقلة كالأجهزة اللوحية، وتوافر يومها 44 شخصاً من جامعي البيانات تمكنوا خلال 5 أيام من مقابلة 1265 أسرة تضمُّ 6720 شخصاً. كان أفراد الأُسر يجيبون عن أكثر من 30 سؤالاً حول وضعهم الصحي، وتاريخ الهجرة، وصحة المرأة والصحة الإنجابية والحاجة للحصول على الرعاية الصحية، وعلى لقاح للأطفال دون سن الخمس سنوات، ما ساعدنا في معرفة حقيقة حاجات الناس. وتبين لنا أنَّ 71% من العائلات يعاني على الأقل أحد أفرادها من مرض الجرب، مما دفع بالمنظمة إلى إطلاق مشروعٍ لعلاج هذا المرض، وتمكنت على إثره من علاج 39 ألف شخص من أصل 200 ألف نازح (أي ما نسبته 20%).

وبمرور الوقت، أضفنا تقنيات لجمع البيانات في وقتها الصحيح وبالطريقة الأفضل. من ثمَّ عملتُ على مشروع جديد للملفات الطبية الرقمية المرتبطة بمشروعين يعالج الأول منها مرضى الأمراض المزمنة، فيما يضمُّ الثاني 3 مشاريع تعالج ضحايا التعذيب.

الصحة النفسية والحرب

لا يدرك كثيرون قيمة الصحة النفسية، إلاَّ أنه موضوع مهم، إذ من الصعب تحفيز الناس أحياناً على تقبل الانطلاق من جديد. وقد أثرت الحرب سلباً على الضحايا كما على العاملين في الميدان الإنساني.

وقد تبين من تقييمات "أطباء بلا حدود" أنَّ حالات الصحة النفسية كانت مرتفعة وبلغت 43% من الأشخاص بدءاً من سن الـ 15 وما فوق، حيث كان هؤلاء يعانون على الأقل من عارضٍ واحد مرتبط باضطرابٍ في الصحة النفسية.

عندما أعود بالذاكرة إلى كل ما جرى، أجدُ أني في مراحل معينة كانت فاقداً للإحساس، حينها لم يكن هناك وقتٌ للحزن، كان علينا العمل سريعاً لإسعاف المصابين ومساعدتهم للنجاة، واليوم أدرك أكثر فأكثر أنَّ جهدنا لم يكن ينعكس على المريض وحده بل على عائلته كذلك. كل هذه التجارب أتاحت لي رؤية الصورة الأشمل، وعلى الرغم من أهمية إنقاذ حياة شخص واحد إلاَّ أنَّ السعي لنشر التوعية والوقاية يساهم في منع الأذى عن المئات. صعوبات كثيرة واجهتنا وما زالت، إلاَّ أنَّ كلمة "شكراً" أو ابتسامة من مريض كفيلة في أوقات كثيرة بتعويض التعب.

*مدير برنامج المراقبة الصحية في منظمة "أطباء بلا حدود"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم