الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بيوت معذّبي الأرض في الشمال الفرنسي متاحف ومحترفات فنية وفنادق للسيّاح

باريس – أوراس زيباوي
A+ A-

المدينة التي كان يسكنها عمال المناجم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في منطقة بروي لا بويسيير في الشمال الفرنسي، تحولت، بعدما خضعت لعملية ترميم واسعة دامت خمس سنوات، الى مركز ثقافي وفني يختصر ملامح أساسية من تاريخ المنطقة. أشرف على عملية الترميم والتجديد مكتب المهندس المعماري الفرنسي فيليب بروست. تمثل هذه المدينة اليوم نموذجا نادرا لما كانت عليه مساكن عمال المناجم وهي سجلت على لائحة التراث الوطني الفرنسي في العام 2009 ثم على لائحة الأونيسكو للتراث الحي في العام 2012.



كان الشمال الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مسرحا لتحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة بسبب الثورة الصناعية واكتشاف المناجم التي عمل فيها آلاف العمال حتى منتصف القرن العشرين. وكان تشييد المناجم في المناطق النائية في قلب الطبيعة يترافق مع بناء المصانع وشق الطرق والسكك الحديد والمجيء بالعمال للعمل والاقامة مع أسرهم بالقرب من المناجم. مع التحولات التي أدت في القرن العشرين الى اكتشاف مصادر طاقة جديدة، توقفت المناجم عن العمل وهُدم الكثير من مساكن العمال. أما مدينة العمال في بروي لا بويسيير فظلت مسكونة خلال النصف الثاني من القرن العشرين حتى السبعينات منه ولم تتعرض للهدم. بقيت شاهدا استثنائيا على زمن مضى.



خلال زيارتنا للمكان يوم افتتاحه، تعرفنا إلى التحولات التي طرأت عليه بفعل أعمال الترميم والتحديث التي بلغت تكاليفها خمسة عشر مليون أورو وطاولت دواخل البيوت لكنها حافظت على المظهر الخارجي الأصلي وعلى الحديقة الداخلية المفتوحة للزوار. هناك بيوت تحولت الى قاعات للعرض الدائم يتعرف فيها الزائر إلى شهادات موثّقة تروي سير العمال في منازلهم مع أسرهم وكيف انتشرت المناجم والمصانع في المنطقة.

من جهة أخرى، هناك المنازل التي تحولت الى محترفات للفنانين المعاصرين أو الى شقق يمكن أن يقيم فيها السياح كالفنادق خلال تجوالهم في الشمال الفرنسي الذي يملك مجموعة كبيرة من المتاحف منها فرع لمتحف اللوفر في مدينة لانس. اما المعارض الموقتة فتقام أيضا في مدينة العمال ومنها حاليا معرض للصور الفوتوغرافية التي أنجزها المصور الفرنسي تييري جيرار الذي يتجول في الشمال الفرنسي منذ مرحلة السبعينات من القرن الماضي ويسجل التحولات العميقة في فضاء المدن التي يمر بها وحياة البشر فيها.

يعكس تحويل مدينة العمال الى مركز ثقافي وفني مجموعة من الأمور، أولها أن كلمة تراث ثقافي لم تعد تنحصر فقط في الصروح الضخمة كالأهرامات والقصور والكاتدرائيات والجوامع التاريخية، بل صارت تشمل كل ما يتعلق بالذاكرة الجماعية والتاريخية للأمكنة والمدن. من جهة ثانية يتأكد لنا من خلال زيارتنا للمدينة مدى ولع الفرنسيين بتراثهم وامتلاكهم المؤسسات والطاقات البشرية التي تسمح لهم بصيانته وحمايته من الهدم والضياع. هكذا تتحول بيوت معذبي الأرض الى نقطة جذب تستقطب فئات اجتماعية متنوعة وتساهم في الدورة الاقتصادية لمدن منسية، وهي المدن التي تحدث عنها الكاتب الفرنسي إميل زولا في روايته الشهيرة "جيرمينال" التي صدرت في العام 1885 وتحولت في العام 1993 الى فيلم من بطولة جيرار دوبارديو وإخراج كلود بيري.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم