الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"الدفتر الكبير" لأغوتا كريستوف: مزق الإنسانية المتبقية بعد الحرب

جينا سلطان
A+ A-

تنكأ الكاتبة المجرية السويسرية أغوتا كريستوف" في روايتها "الدفتر الكبير" صديد الجرح الإنساني الذي غرسته ضراوة الحرب العالمية الثانية في نفوس الأطفال الغضة، فتروي من خلال ذاكرتهم اليقظة تفاصيل النزوح نحو أمان الداخل، وخيارات التخلي القسري عن ترف الحضارة، وتشوه نقاء الكينونة بعدائية القتل، وسهولة التخلص من الآخر بعد تسميته عدواً.


تبدأ الرواية بمشهد يلائم أجواء الحرب، وينقلها بأمانة قاسية تضعنا مباشرة في صميم الأحداث؛ فالمدينة الكبيرة تقصف ليلاً ونهاراً، ولم يعد ثمة شيء يؤكل، وتم اجلاء الأطفال الى القرى، عند أجدادهم أو عند الغرباء. صورة تكتمل بلجوء أمّ شابة الى منزل والدتها الريفي كي تؤمّن لطفليها أمان اجتياز الحرب. تضاف إليها ملاسنة كلامية جارحة بين المرأتين، تستعرض في كلمات قليلة، الغربة والشقاق في الأسرة الواحدة، وانعكاسها لاحقاً في علاقة الجدة بحفيديها التوأمين.
تقص كريستوف الرواية على لسان طفلين جميلين في العاشرة من عمرهما، بنكهة صبيانية ساخرة، بالغة التشويق والامتاع. وتسرد بعفوية محببة التفاصيل البسيطة التي تستولي فيها الحياة القروية على الطفلين، وكيف ينسلخان عن عالم المدينة ليعيشا وفق منهج الجدة الصامتة، التي تعيد تربيتهما من جديد وفق عقيدة القرويين المتوارثة: المأوى والطعام ينبغي استحقاقهما!
كانت القرية قريبة من الحدود، بجانب قاعدة عسكرية. وكان المنزل محاطا بحديقة مزروعة بالخضر والفواكه، اعتادت الجدة بيع منتجاتها في السوق القريبة، إضافة إلى بيع الارانب والبط والدجاج. وفي بيت الجدة لم يكن ثمة حمّام، ولا صابون، ولا مادة لغسل الملابس، فازداد الصبيان اتساخاً يوما بعد يوم، وصارا ينزّان نتانة مثل الجدة، التي باعت مناشفهما وأغطيتهما، فغطسا تماماً في صلب الحياة البرية العارية عن زينة المدنية ونظافتها، مما حجّر مشاعرهما ووطّن القسوة محل الرأفة والشفقة، وخصوصاً مع تواتر تمارين تعويد الجسد على الجَلدْ الأقصى، عبر الضرب بحزام جلدي، لاحتمال الألم والأذى من دون بكاء، وتجاوز الإهانة ومرارة الشعور بالفقد الأبوي من دون المرور بعجز الحنين ورثاء الذات.
تطل وجوه كثيرة تترك بصمتها قبل أن تتوارى في غياهب النسيان، كالفتاة القبيحة المسماة بخطم الارنب، ابنة الجارة التي فضلت حياة الفقر على العمل فادعت الجنون. وعاشرت ابنتها الحيوانات لأن البشر نبذوها، إلى ان جاء اليوم الذي عرضت جسدها للاغتصاب الجماعي كي تنتسب لفصيلة البشر. والجندي الفار من الخدمة العسكرية، الذي مهد لبذرة العصيان والجنوح نحو السلام بعد التنازل عن أحجية العدو المتلونة. والضابط الأجنبي الذي عرض جسده للضرب الوحشي، اثر فشله في ملء الفراغ العاطفي بموت معشوقه في الجبهة. وخادمة الخوري التي حاولت اخماد شهواتها باستغلال الصبيين جنسيا، والاسكافي الذي أعطاهما الأحذية مجانا، بعدما استشعر خطر الاعتقال والقتل.
تتميز كتابات كريستوف بالطابع المزدوج، فهي تكتب وفي الوقت نفسه تقدم مسوّدات تمارين للكتابة. تضيء أفق أبطالها وخلجاتهم النفسية من خلال تداعيات الرصد الواقعي لهزيمة الإنسان في وطنه وأمام قدسية ذاته، وتعري صدقية الحرب وشرعيتها، فتفضح عزلة الأفئدة المستنزفة ذلاً وقهراً، التي تحترق أسسها الأخلاقية في أتون صراع البقاء، ممهدةً لإطلاق سراح الوحش من مصيدة الوقت.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم