الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

صبراً جميلاً أيتها المكتبة!

المصدر: النهار
عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

لمَن كانت طرابلس بلده وبيته وسقفه وفضاءه البحري الأنيق، ولمَن عاش في كنفها، ودرس في مدارسها، وصادق مفكّريها وباحثيها وفنّانيها وعلمانييها، روّادها وأهلها وشبابها، ثمّ ارتاد أزقّتها، وأسواقها التاريخية العتيقة، وجلس في مقاهيها، وعشق معالمها الجوهرية، واغتنى بكنوزها المعرفية الدافئة، واستنار بعلاماتها المضيئة، ينبغي له أن يكون عرف مكتبة "السائح" المضرّجة الآن بالفحم والهوان، التي كانت حتى الأمس تُعتبر وجهاً مشرقاً من وجوه المدينة الشمالية العريقة، والتي أتى عليها الظلاميون، ربما لأنها تزعج تكفيرهم، وتؤرق سواد عقولهم، وتساهم في تبديد ظلامهم الهمجي.


هذه المكتبة المدينة، والمكتبة الأمّ، والمكتبة التنوّع الخلاّق، والمكتبة التي تفتح المرايا على الذات، وعلى الآخر، كيف استطاعت الأيدي الكريهة أن تضرم النار في مخطوطاتها الثمينة، وفي كتبها النادرة، وفي رفوفها التي تأوي إليها المعارف من كلّ حاضرٍ نضرٍ أو ماضٍ تليد؟!
نحاول أن نبحث عن سبب لهذا "التأديب" الاستبدادي المتعمد، فلا نجد سبباً، سوى أن هذا الفعل القاتل إنما يغتال معنى عميقاً من معاني المدينة المتعددة. وهذا حصراً، ما يريده أعداء المدينة، في الخارج والداخل، لهذه المدينة السمحاء، التي تعلّمنا فيها، وتعرّفنا إلى الآخر فيها، ولا نزال نعتبرها أمّنا المدينية الأولى قبل أن ينتقل الواحد منها لاحقاً إلى مدينته البيروتية.


تبّاً لكم أيها الظلاميون لأنكم جبناء. تخافون الكتب لأنها تفضحكم، وتعرّي جهلكم الديني، وتكشف فداحة المستنقع الذي تقيمون فيه.
أليس "طبيعياً" أن يضرم الجهل نار الغرائز في أيديكم، فترتكبوا ما يأتي: هذه المكتبة يجب أن تُحرَق لأن كتبها تطارد ظلمتنا التكفيرية الماحقة. يجب أن نقتل هذه الكتب لأنها لا بدّ أن تطرد تكفيريتنا، وتنتصر عليها في أحد الأيام!
لكن أهل طرابلس يقولون لكم: إنكم لا تستطيعون أن تستولوا على طرابلس، لأن طرابلس لأهلها، وهؤلاء لا يمكنهم أن ينكسروا أمام مشوِّهي فكرة المدينة، ومحاولي اغتصابها، ومصادرتها، والاستيلاء عليها، بالترويج الترهيبي الظلامي الذي يلغي تاريخاً لها، معرفياً عريقاً ومشهوداً له.
لمكتبة "السائح" نقول: سامحينا أيتها المكتبة. كان ينبغي لنا أن نكون هناك، لنمسح عنكِ حريقاً كان الأحرى لو أتى على الكتب السوداء التي تدبّجها الأيدي السفيهة والعقول الرعناء.


أما طرابلس فنقول لها: صبراً أيتها المدينة الأبية. صبراً جميلاً. فأنتِ لن تصيري سبية من سبايا الظلام. بل ستظلين بيتنا المعرفي الوطني الذي منه سيرتدّ الليل على أعقابه.
صبراً جميلاً أيتها المكتبة. صبراً جميلاً يا طرابلس. صبراً جميلاً أيتها المدينة. لن يطول ليلكِ بعد الآن. فثمة كتبٌ ومخطوطاتٌ كثيرة في "السائح" لا بدّ أن يشتعل ضوؤها اشتعالاً معرفياً، على رغم الجروح، ليحمل إلى المدينة الثكلى، فجر التسامح واليقظة والعرفان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم