الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قيل لي إنه الخوخ البرّيّ

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
قيل لي إنه الخوخ البرّيّ
قيل لي إنه الخوخ البرّيّ
A+ A-

خرجتُ صباح أمس الأحد من المنزل، تاركًا كوبر – موقّتًا - رهين صومعته القسرية، للقيام بواجب تعزية، في جزين، والعودة سريعًا للبقاء على مقربةٍ من كائن روحي الأليف.

كوبر يحتاج إلى اعتناءٍ جسمانيٍّ وعاطفيٍّ مضاعَفٍ، بل إلى تعزيةٍ متواصلة، بعد العملية الجراحية التي خضع لها في الركبة، وتركتْ في نفسه وفي عينيه جروحًا وأحزانًا شتّى.

جزّين صباح أمس الأحد، كانت متباهية، جميلة، أنيقة، هانئة، هادئة مسترخية، حالمة، تحت شمس نيسان.


جرس كنيستها الحنون الذي ينادي إلى قدّاس التعزية، فتح الحنين إلى السبعينات، أيّام كنتُ أقصد تلك المدينة، بالسرفيس طبعاً، لأنزل في ضيافة أهل صديقي هناك.

لا يزال الصديق صديقًا. فصداقاتٌ نادرةٌ من هذا النوع، خالصةٌ من كلّ مصلحة، لا بدّ من المحافظة عليها، وصونها، وتربيتها، والسهر عليها برموش العين، لتكون شهادةً على زمنٍ منصرم، وعلى أخلاقياتٍ منصرمة في العلاقات الانسانية.

ليس هذا هو الموضوع فحسب.



ثمّة موضوعٌ "جانبيٌّ"، قد يمرّ مرور الكرام في حسابات آخرين، لكنه عندي يحتلّ منزلته القصوى. المشهد الطبيعي يخترقني اختراقًا، ويهزّ كياني. ما إن تقع عيني عليه، حتى أراني أهمّ بتصويره، بهاتفي، خوفًا عليه من الضياع والاندثار.

ليس الشلّال، شلاّل جزّين، هو المقصود. ولا الآنسات الصنوبرات الفاتنات. ولا البيوت المعتّقة القرميد والقناطر والشبابيك الخشب.

ما لفتني، رتلٌ من الأشجار الصغيرة، مجروحٌ بلونٍ واحدٍ أحد، عند مدخل جزّين.

ليس هو لون العشّاق، ليس هو الأحمر النازف. ليس هو الأحمر القاني. ولا الأحمر المضرّج. وليس هو القرميد في تدرّجاته اللونية. بل شيءٌ من هذا كلّه، بل شيٌ من روح هذا كلّه. فكيف لا ألتفت. وكيف لا أقول لنفسي يجب أن ألتقط اللون، يجب أن أقبض على روحه، يجب أن أرهن عينيَّ له.

لم أكن قادرًا على التوقف. مَن يقلّني في سيّارته يجب أن يصل إلى موعده. وقد يكون تأخر على الموعد.

قلتُ في نفسي لن أعود مع أحد إلى بيروت. سأقصد مدخل جزّين من مار مارون، بعد انتهاء القدّاس ومراسم التعزية. سأتسلّل مشيًا، عائدًا إلى هناك، غير آبه بالغداء المُعَدّ خصيصًا للمناسبة. لا بدّ أن يزعل صديقي. سأراضيه بصوَر من جزّين. فقد كان لا بدّ لي من أن ألتقط صوَر الأشجار ذات اللون الواحد الأحد. سأكبّر الصوَر، صورةً صورة. سأركّز على التفاصيل. على الإيقاعات. على النبضات. على الروح. على الأرواح غير المنتبَه إليها.

هكذا وجدتُني عند مدخل جزّين، قبيل المعبور، وقبيل سيّدة المعبور.

أمضيتُ عشر دقائق هناك. خمس عشرة دقيقة. لستُ أدري. ربّما أكثر.

أنجزتُ مهمتي في التقاط الصوَر، قلتُ سأرسلها إلى صديقي عربون اعتذار. وهكذا كان.

ثمّ، عدتُ بالسرفيس إلى بيروت. وكان كوبر في انتظاري. فداويتُهُ بالصُوَر، وبما يستحقّ من حبّ.

سألتُ، فقيل لي إنه شجر الخوخ البرّيّ. وهذا هو لونه.

لم يكن عندي يوم أمس في عينيَّ سوى هذا اللون. وسأبقيه محفوظًا هناك، بمثابة دواء.

في كلّ حال، ليس عندي غير الحبّ أُداوي به ذاتي وحياتي وأصحابي. وبه أُداوي الكلمات.




[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم