الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قضية الـ"بدون" تحت مجهر الأدب: الرواية المناهضة لواقع قمع الأقليات

أحمد الشيخاوي
قضية الـ"بدون" تحت مجهر الأدب: الرواية المناهضة لواقع قمع الأقليات
قضية الـ"بدون" تحت مجهر الأدب: الرواية المناهضة لواقع قمع الأقليات
A+ A-

في اعتقادي، يُعتبر الكاتب والروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل (1940/2018)، أول من رسم ملامح رواية قضية الـ"بدون"، مثلما أشار هو إلى ذلك في الكثير من محطاته الإبداعية والحياتية، ولقد كان هاجسه الأول، الانتصار لهوية غير المعتدّ بهم في هذا الوطن العربي العريق، ممن قاوموا بشراسة الغزو العراقي عام1990، وذادوا عن انتمائهم المؤجل، فمنهم من استشهد، ومنهم من تعرّض للعاهة المزمنة، ومنهم من نجا، متلمّظاً نشوة الانتصار الممزوج بمرارة الانتظار، انتظار الاعتراف به ومنحه الهوية الكويتية، لكن... لتخونه الوعود السياسية في النهاية وتظل الإشكالية مطروحة، ومن ثم ليغتنمها كمادّة دسمة وموجعة في آن، الروائي الذي خذلته الشهرة أيضاً، كونه التزم بديدن التجريبية في منجزه السردي الحافل: القصة على نذرتها والرواية على وفرتها وغزارة العطاء ضمن آفاقها المشتعلة بقضية الـ"بدون".

تأسيساً على ما تقدّم، نجده، أي إسماعيل فهد إسماعيل، روائي قضية بامتياز، فضلاً عن أنّه أول من أسس فنّ الرواية في وطنه الكويت. فهل يا ترى يمكن الحديث عن قضايا عربية أخرى، كرّس لها بعض الرواد كامل خطّ العمر، إبداعياً، فأثروا بها تنويعاً وطرحاً ومعالجة، أم ليس بعد؟ وإن تناولت بعض الروايات الناجحة نزوعاً يشبه وعي التشبّع بالقضية، كرواية "الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري، على سبيل المثال، والتي تجسّد ومضات من الإيروتيكية العربية الصادمة، أو تلك الأعمال التي احتفت بالهجرة السرية، وغيرها من المعضلات التي تئنّ لها أوطاننا المكلومة والرازحة تحت نير الإيديولوجيات المحاصرة بأنانية وغطرسة وسادية وكاريزما الزعامة والتسلطن.

اشتغل الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل على الموروث العربي، باقتصاد وذكاء، دامغاً بأقصى رمزية الإرث العربي الممتدّ، ومدغدغاً بثالوثٍ ذاكراتيٍّ مختزلاً في العنقاء والخلّ الوفي والغول بشكل ضمني وطيفي ومحايث، كي يُلبس قضية الـ"بدون" بعداً طوباوياً آسراً.

له في فنّ الرواية العديد من الإصدارات، نجردها تباعاً كالآتي: كانت السماء زرقاء (1970)، المستنقعات الضوئية (1971)، الحبل (1972)، الضفاف الأخرى (1973)، روايتا ملف الحادثة67 والشياح (1975)، الطيور والأصدقاء (1979)، خطوة في الحلم (1980)، النيل يجري شمالاً ــــــ البدايات(1983)، النيل يجري شمالاً ـــــــ النواطير(1984)، النيل الطعم والرائحة (1989)، إحداثيات زمن العزلة رواية سباعية، الشمس في برج الحوت ــــــ الحياة وجه آخر ــــــ قيد الأشياء ــــــ دوائر الاستحالة ــــــ ذاكرة الحضور ــــــ الأبابيليون ـــــ العصف (1996)، يحدث أمس ـــــ بعيداً إلى هنا (1997)، الكائن الظل (1999)، سماء نائية (2000)، في حضرة العنقاء والخلّ الوفي(2014) وهي الرواية التي أدرجت العام 2015 ضمن القائمة الطويلة للبوكر، الظهور الثاني لابن لعبون ــــــ السلبيات (2015).

كما له في القصة والمسرحية والدراسات، وبذلك يكون مبدعاً موسوعياً، استطاع أن يبصم شخصيته ويوقّع هويته ككاتب عاشق للتجريبية ورهاناتها داخل مختلف خرائط المنجز الأدبي وعلى تنوّع حقوله وأشكاله.

ومما يسجل لصالحه، ترحيب الأديب العربي صلاح عبد الصبور، بأول مواليده الروائية، معتبراً ذلك هذا الناقد الفذّ، نقلة كبيرة محققة المفاجأة والإدهاش، والانقلاب على العرف العربي الموغل في فلسفة الانتماء للشعر بوصفة ديوان العرب، والهمّ المتفق عليه.

يقول الأستاذ صلاح عبد الصبور في تصديره لرواية " كانت السماء زرقاء": [كانت الرواية مفاجأة كبيرة لي، فهذه الرواية جديدة كما أتصوّر، رواية القرن العشرين قادمة من أقصى المشرق العربي لعنصر، حيث لا تقاليد لفنّ الرواية، وحيث ما زالت الحياة تحتفظ للشعر بأكبر مكان. ولم يكن سرّ دهشتي هو ذلك فحسب، بل لعل ذلك لم يدهشني إلا بعد أن أدهشتني الرواية ذاتها ببنائها الفني المعاصر المحكم، وبمقدار اللوعة والحب والعنف والقسوة والفكر المتغلغل كله في ثناياها].

وفي حوار كانت قد أجرته معه الجزيرة ونشرته في موقعها الإلكتروني، فجّر إسماعيل فهد إسماعيل جملة من الحقائق والتابوهات، منتقداً السياسة في شخص سَدَنتها الفاشلين الذين ساسوا تلك الحقبة بعنجهية ونفعية مكشوفة، مثلما سلّط الضوء على مجمل الهموم المجتمعية والثقافية، موبّخاً بأسلوب لبق جدّاً، الأنظمة التي جلبت للمنطقة صوراً من التشرذم والتنازع والشروخ المنعكسة سلباً على كافة الشعوب العربية، وطعنها في وحدتها ولغتها وهويتها.

تحدّثَ عن ما يمكن أن ندرجه مفاهيمياً في خانة أدلجة الثقافي، وتثقيف السياسة، والعكس بالعكس تماماً، صرّح بما يفيد التالي: أي كتابة مسؤولة يُفترض أن تتقنّع بما هو إيديولوجي تظلّ تتستّر عليه المعاني، بيد أن تناسق الإيديولوجية واتّساقها مع مواقف الكاتب، وأيضاً تطابقها مع الظرف على موضوعيته، تثوّر الحوار الضمني لدى المتلقّي المعني، دونما طمس أو خدش لذكائه ومشاعره، بعدِّه طرفاً بارزاً في إعادة بناء وإنتاج النص الذي يتلقّاه].

بذلك يكون هذا الكاتب العبقري الموسوعي، روائي قضية لم تزل تؤرق الرأي العام، وترخي ظلالها على المشهد السياسي العربي، كونه أفلح إلى حدّ بعيد في تدويل قضيته ومنحها معنًى كونياً مؤثّراً، أخذت معه الرواية العربية، برغم كونها جنساً غربياً دخيلاً، منعطفاً راحت تتشكّل له الملامح الأولى لخصوصية الأدب العربي الذي يحاور ويستنطق أزمتنا على تعدد مناحيها، بجنس كتابي اسمه رواية القضية.

ما انفكّ يكرّس خطابه الروائي للذود عن أزمة حقيقية ومهيمنة، محاولاً إنصاف هوية الأقليات، ليس فقط داخل وطنه الأمّ، بل على نحو شمولي الرؤى، يحتفي بقضية الـ"بدون" على نطاق واسع وممتدّ، ما أكسب صوته روح العالمية في العناية بأزمة هويّاتية، ضمن حدود ضرب سردي بديع، يحرّض على لملمة ملامح انتماء الأقليات حيثما تجذّر وجودها.

شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم