الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"تاريخ استشهاد سعاده... وما بعده": شحادة الغاوي يعلي رجلاً وينعي حزبه

جو حمورة - باحث
"تاريخ استشهاد سعاده... وما بعده": شحادة الغاوي يعلي رجلاً وينعي حزبه
"تاريخ استشهاد سعاده... وما بعده": شحادة الغاوي يعلي رجلاً وينعي حزبه
A+ A-

سبعون سنة مرّت على غياب أنطون سعاده. لم يشفع إعدام "الزعيم" عام 1949 في انتشار فكره بين الكثير من المريدين في "سورية الطبيعية"، إنما انحصر في رقع بسيطة من لبنان وسوريا، وحضور هزيل جداً في الدول المحيطة بهما. غاب من أراد تأسيس دولة قومية، ودفع دمه ثمناً لتسوية لبنانية - سورية جعلته سجيناً فمُحاكماً في يوم واحد، ثم قتيلاً برصاص سجّانيه. 

على عكس حالة حزبه، حافظ الرجل على هالة من القدسية عند محبيه بشكل خاص، وبسمعة طيبة ملحقة بعبارات الثناء المكررة عند ذكر اسمه بشكل عام. أما الحزب "السوري القومي الاجتماعي"، فعلى الرغم من نضاله الطويل والشاق في كل من لبنان وسوريا، ومصرع واعتقال الكثير من ناشطيه، فقد تعرض للكثير من النقد المتراوح بين ذاك الإصلاحي أو ذاك الهدّام. غير أن المميّز في الانتقادات الموجهة للحزب هو أن معظمها لم يأتِ على لسان أخصامه، إنما، بشكل أساسي، عبر كتابات وشهادات أعضاءه الذين هجروه لسبب أو لآخر.

صدر بداية عام 2019 كتاب جديد ومهم لشحادة الغاوي "المؤمن بسعاده معلّماً وهادياً للأمة والناس" (غلاف الكتاب) تحت عنوان "الأسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده... وما بعده". تكمن أهمية هذا الكتاب الحقيقية بأنه طرح وناقش مسؤولية أعضاء الحزب وقيادييه في قضية موت مؤسس حزبهم وفشل مسيرتهم في العقود اللاحقة، دون التركيز بشكل كبير، كما أغلب الكتابات الأخرى، على مسؤولية أعداء الحزب أو مؤامرات الدول الغربية. كذلك الأمر، يقدم الكتاب نقداً قاسياً وعلمياً – في أغلب الأحيان – لمن ورثوا الحزب وإرث سعاده، والمدعم بالكثير من المراجع وببعض الوثائق المنشورة في ملاحق الكتاب.

الإطلاع على كتب التاريخ له ميزة خاصة، فهي تقدم قراءة لأحداث الماضي وتتيح المجال لمقارنتها مع الحاضر. يتميّز كتاب الغاوي بهذا السفر اللطيف بين القديم والحديث، فيقص قضية من تاريخ الحزب أو "خطيئة" ارتكبها أحد القادة منذ نصف قرن، ثم يربطها بحدث مشابه وقع منذ حفنة من السنوات في أروقة الحزب. تتكرر الأخطاء وتتوالى، فيما الكاتب يضيء عليها الواحدة تلو الأخرى في كتابه المؤلف من خمسة فصول.

في المنهجية، يُخطء الغاوي في إبراز نتائج توصل إليها قبل إثباتها، فيقلل، بالتالي، من التشويق لمعرفة ما هو قادم في الصفحات اللاحقة. كما يظهر، بسبب هذه المنهجية، كمن يريد تبرير اقتناع شخصي وليس التمحيص في براهن ودلائل للوصول إلى حقائق علمية، فيضع النتيجة أولاً ثم يفرد وثائقه ومراجعه ويربطها ببعضها البعض لتبرير النتيجة التي أعلنها سلفاً.

قلة التشويق في الكتاب يقابلها نقص في المعلومات وضياع في السياق التاريخي. إن بعض مضمون ما كتبه الغاوي يبدو أقرب إلى "فشة الخلق" أو تصفية حسابات حزبية داخلية. لا يستفيد من هذا الكتاب كثيراً من ليس على دراية حقيقية بالحزب وتاريخه وأدبياته، لأن مضمونه وتسلسله موجه إلى محازبي "السوري القومي الاجتماعي" أو الخارجين منه أو العاتبين عليه، أكثر من توجهه إلى  جمهور واسع وجديد لا يعرف كثيراً عن الحزب وانشقاقاته وتاريخه منذ العام 1932 وحتى اليوم.

في المضمون كذلك، يحقق الغاوي الغاية من كتابه بإلقاء اللوم على عدم كفاءة وقلة مسؤولية قادة الحزب "السوري القومي الاجتماعي". يدخل الكاتب في التفاصيل بشكل عميق، فيقدم نقداً لأعمال وتجارب جورج عبد المسيح، وأديب الشيشكلي، وعصام المحايري، وأسد الأشقر، وعبدالله سعاده، وإنعام رعد والكثير غيرهم من القادة. تتعدد أشكال ما يقدمه الغاوي من وثائق وتحليل لتصرفات وانحرافات هؤلاء، فهم "لم يكونوا على قدر الأمانة التي استشهد سعاده لأجلها"، وهم كانوا كذلك "فاشلين في فهم دستور معلمهم فهماً صحيحاً، وكانوا مقصرين في إدراك نظرته إلى الديمقراطية بشكل عام وإلى عملية انتقال السلطات بشكل خاص" (صفحة 308)، كما أنهم اتبعوا "سياسة حمقاء خرقاء غبية مراوغة متورطة فيما لا يمكن تبريره والدفاع عنه" (صفحة 370) والكثير الكثير غيرها.

الموضوعية في قراءة أعمال وتصرفات قادة الحزب تضمحل عند ذكر "الزعيم"، فينقلب البحث العلمي إلى أشبه بنثر غزلي. لأنطون سعاده هالة من القدسية لم يجرؤ الغاوي على مسّها طوال الكتاب. بحسبه إن سعاده "قائد استثنائي فريد" (صفحة 28) و "قائد خطير من طراز عالمي" (صفحة 148) قد قام "بجهاد أسطوري مليء بالإعجاز" (صفحة 37)، ومواقفه "رائعة ومتألقة وعبقرية" (صفحة 54)، وإرادته "خارقة" (صفحة 71). لا يكتفي الغاوي بهذا الثناء المبالغ به، بل يذهب بعيداً بجمل عاطفية طويلة أخرى كمريد يطوف عشقاً حول جسد شيخه الصوفي، فيُبعد الكتاب عن سياقه الموضوعي، حيث يقول مثلاً: "لا نبالغ أبداً إذا قلنا إن صراع سعاده الملحمي هو فصل آخر من فصول تاريخ الصراع بين الخير والشر في هذه البلاد المقدسة المعبَّر عنه منذ صراع أنليل وأنكيدو ومردوك وأدونيس وعشتار وبعل والخضر ويسوع ومار جرجس" (صفحة 241).

لا تختلف هذه القدسية التي يعززها الغاوي في كتابه عن أشكال من القدسيات المشابهة التي ينتجها فكر كل من انتسب عميقاً إلى حزب عقائدي. تتحول المبالغات في هذه الأحزاب إلى أفيون للمحازبين، فيغدقون منتشين صفات العظمة والبطولة والخلود على الرؤساء والمؤسسين، خالقين حولهم هالة معممة تمنع انتقادها أو المس بهم، على الرغم من أن نقد وتمحيص أفكار وأعمال هؤلاء "الأبطال" هي أولى من نقد المسؤولين الوسطيين المحدودي التأثير. إن الأحزاب العقائدية التي تقدم قراءة شاملة وشمولية للماضي والحاضر، ونظرة حتمية إلى المستقبل، تؤطر من تشرّب من أفيونها، فتخلق عندهم صعوبة في رؤية "الحقائق" إلا من منظار واحد، وهو منظار لا يبتعد كثيراً عن مضمون العقائد ومسوغاتها وما تقدمه من أفكار وأسلوب في التفكير.

على هذا المنوال، يعيد الغاوي كل فشل تنظيمي وسياسي وحتى تجاري رافق مسيرة أنطون سعاده إلى عدم كفاءة أنصاره وقادة حزبه. لم يستطع "الزعيم" تحقيق نتائج سياسية وحزبية مرضية خلال فترة سكنه في الأرجنتين عامي 1939-1940 (صفحة 71-72) مثلاً، كما فشل في إدارة جريدة "سورية الجديدة" (صفحة 80-82)، وفشل في التجارة مرتين (صفحة 86-87)، وفشل في تحقيق شيء من "الثورة المسلحة" التي أعلنها عام 1949 (صفحة 238-241)، إلخ. أما المتهمون في كل هذا فهم، بحسب الغاوي، إما الظروف القاهرة أو قلة كفاءة القادة المتحملقين حول "الزعيم". إلا أن ما غاب عن الرجلان هو أن القادة الحقيقيون هم من يخلقون قادة فعليون من حولهم، وليسوا هؤلاء الذي يتسيّدون على الزعامة، ويطلقون الخطابات المعقدة التركيب من على المنابر، ويضيعون قضاياهم عندما يغادرون عالم الفناء.

لا يخفِ الغاوي خيبة أمله من حالة الحزب "السوري القومي الاجتماعي" الماضية والحاضرة وانقساماته المتتالية، كما شذوذها عن تعاليم "الزعيم" المؤسس طوال الكتاب. يبلغ الأسف مداه عند وصف ما قام به قادة الحزب في جسد أنطون سعاده الميت (صفحة 262-264)، فيشرح بمرارة كيف تقاتل القادة عليه، حيث أخذ واحد خصلة من شعره، وآخر بعض أسنانه، وثالث قطعة من كتفه، ورابع عامود إعدامه، إلخ. حسناً فعل الغاوي في استخدام كتاباته كسوط متين لجلد القادة والقارئين، إذ أن بعض الأحزاب المترهلة بحاجة لهكذا سياط لتستفيق من ثباتها العميق وبلادتها الظاهرة.

يبقى أن ما يضيء عليه الغاوي في هذا الكتاب مهم من ناحية حل أحجية الحزب وما رافقه من إنجازات وخيبات ومرارة وانحرافات، فيعطي كل مهتم معلومات جديرة وتحليل جديد ينير الطريق لكل باحث عن نثرات من حقائق غفلتها كتب التاريخ.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم