الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

يا الله! كم يلزمني من الوقت كي أُشفى؟

جميلة حسين
يا الله! كم يلزمني من الوقت كي أُشفى؟
يا الله! كم يلزمني من الوقت كي أُشفى؟
A+ A-

انطلقت الزغاريد من منزل ماريا، وعلا صوت الموسيقى احتفاء بالحدث، الفرحة العامرة لفّت الحضور، الجميع في الحلبة، رقص وغناء ودموع فرح وتبادل التهاني.

باقات الزهور أخذت مكانها في الزوايا وأمام العروسين. الحلوى والمشاريب غطّت أسطح الطاولات.

فيما كان جاد في حالة اضطراب وتناقض، يقول: "لا أصدّق أين أنا، ولا في أي مكان! اختلطت الأصوات في رأسي، صوت المغني مع صراخ المحقق، وصوت الطبلة مع زعيق المحقق يمسك الكرباج ويضرب به أنحاء جسدي.

لم أستطع الفصل بين الحالتين، كنت مشدوهاً أضحك وأبتسم لحبيبتي، وأتوه أمام صورة التعذيب التي تلاحقني.

يا الله! كم يلزمني من الوقت كي أشفى، كي نشفى نحن السوريين!؟

حتى في أصدق اللحظات فرحاً أتخيّل لحظة الوجع والألم.

أنا جاد المطرود من حضن وطني وحضن أمي، ها أنا في حضن عائلة السيدة ماريا في لبنان، التي استقبلتني بحفاوة وحبّ، صرت فرداً منها بعد أن وقعتُ في غرام ابنتها ريتّا، وهكذا جمعنا الحبّ وقررنا العيش معا مدى الحياة. سأرتاح بعد أيام عصيبة عشتها لسنوات خلت".

ويتابع:

"غادرت بلدي نازحاً كغيري، وهارباً من قمع واعتقال، ومن حرب لم يتوقّع أحد شراستها وقسوتها إلى هذا الحدّ. غادرت إلى بيروت ومنها إلى الخليج حيث سبقتني شقيقتي. وهناك حصلتُ على أكثر من فرصة عمل، لكن الإمارة لم تمنحني إقامةً وطلبت مني المغادرة، وهكذا تمّ ترحيلي، لكن إلى أين؟ لا أعرف!

ليال قضيتها في مطار دبي ضائعاً أنتظر مصيري. تحوّلت إلى إنسان معلّق يستجدي مكاناً يذهب إليه. جواز سفري المهترئ وصورتي غير الواضحة، جعلا طلب الانتقال إلى أي بلد يقابل بالرفض، حتى تركيا التي لا أحتاج فيها إلى تأشيرة دخول رفضت سفري إليها. افترشت أرض المطار الباردة مثل أي مشرّد لم يعد لديه بلد، وأصبح بلا مأوى.

حاولت أن أنام على مقعد ضيق متكوراً على نفسي، لكن ضجيج المسافرين والأصوات العالية حالت دون ذلك. أنهكني التعب، رحت أتنقّل من زاوية إلى أخرى لأقتل الوقت، تارة أتتبّع

حركة الطائرات، وطوراً أتأمل وجوه الناس. تحوّلت إلى سجين في مطار، فضاء واسع ينظم انتقالات الناس من مكان إلى آخر، أنا فيه موقوف.

لم يكن هناك خيار سوى لبنان لأتخلّص من الكابوس، البلد الوحيد الذي استقبلني. وبالفعل، هبطت في مطار بيروت وأنهيت إجراءات المرور وسارعت إلى الاتصال بماريا قريبة صديقي مازن، كي أطلب منها المساعدة في بلد لا أعرف فيه أحداً.

ردّ عليّ ابنها مارك، عرّفته بنفسي، حضر إلى المطار واصطحبني إلى منزلهم. هناك استقبلتني ماريا بترحاب ومودة جعلاني أشعر بالارتياح وأتخلّص من الإحراج، فأنا صديق قريبها الذي عشت معه أجمل أيام الدراسة على مقاعد الجامعة.

بعد العشاء الذي لم أتناول منه إلا القليل بسبب ارتباكي وخجلي، طلبتُ أن يرشدوني إلى فندق، أمضي فيه بعض الوقت قبل أن أجد مسكناً آوي إليه، لكن صاحبة المنزل رفضت بشدة وعرضت عليّ البقاء لأيام ريثما أتعرّف إلى بيروت أكثر، وأتدبّر أمر جواز سفري المهترئ الذي بسببه سيرفض أي فندق استقبالي، وسيجعل تنقّلي مصدر خطر.

قضيت أياماً في منزل ماريا، أدخن بشراهة وأفكر في مصيري في هذه المدينة التي طالما سمعت عنها وحلمت بالمجيء إليها، شعرت فيها بالألفة والأمان.

كان عليّ أن أجد مسكناً أنتقل إليه كي لا أحمّل ماريا وعائلتها عبئاً إضافياً، خصوصاً وأن ابنتها ريتا عادت من أوروبا بعد إنهاء دراستها هناك.

شعرتُ أن ماريا ستكون محرجة أمام ابنتها، ففي المنزل ضيف لا تعرفه. لكن المفاجأة كانت الانسجام السريع الذي حصل بيني وبين ابنتها، فلدى تعرّفي إليها وكما يقول المثل الشعبي "إعجاب من أول نظرة"، وجدنا

مشتركات واهتمامات كثيرة. كانت لطيفة، ودودة، كسرت حاجز الخجل بيننا، وهكذا تجالسنا كثيراً وسهرنا معاً، وساعدتني في إيجاد مسكن كنايةً عن غرفة مفروشة عشت فيها مؤقتاً.

حرصتُ على تواصلي مع ماريا التي أنقذتني من ضياعي وشرودي الدائم، أعطتني أملاً بالآتي وحباً عوّضني في مكان ما عن حضن إمي.

لهذا قررت أن أخطو خطوة إلى الأمام، وأتقرّب من ريتا التي زاد إعجابي بها، وحب لم أعد أستطيع إخفاءه. 

استغليت مناسبة عيد ميلادي، دعوتها إلى مشاركتي الاحتفاء به. وافقت، عندها وجدتها فرصة جيدة لأصارحها بمشاعري. أخبرتها كيف لفتت انتباهي منذ لحظة لقائها، ذكرّتها بتفاصيل اللقاء الاول بيننا، ماذا كانت تلبس، وكيف كانت تسريحة شعرها. أخبرتها أنني أحفظ حركاتها وتصرفاتها وردود فعلها. وانطلق لساني مثل نهر فاض عن مجراه. صارحتها بحبي لها قائلا: عندي خياران لا ثالث لهما، والأمر يتعلق بكِ، وبردّك قبولاً أو رفضاً، إن وافقت على الزواج مني سأبقى في لبنان ونؤسس معاً عائلة، وإن رفضتِ سأغادر إلى أوروبا لأتابع دراستي العليا، بعد أن حصّلت إقامة ومنحة دراسية. وفي قرارة نفسي كنت أناجي ربّي أن توافق. كنت بحاجة شديدة إلى الحبّ والاستقرار. الحبّ بالنسبة لي أوكسجين الحياة، أفضّله على الدراسة والغربة، فلا شيء يستأهل العذاب والموت في هذه الحياة، يقول جاد، ويتابع: كنت أتدفّق بالكلام وهي تصغي وملامح الرضى بادية على وجهها. وحين رأيت ابتسامتها ومظاهر قبولها، شعرت أن العالم ابتسم لي من جديد، وكانت محطة مفصلية في حياتي، بداية جديدة، حزن أقل، وحبّ وحنان أكثر. إنه الخامس من نيسان. تاريخ جعلني نهباً لمشاعر متضاربة، ففي هذا التاريخ تمّ عقد قراني على ريتا، وقبله بعام من التاريخ نفسه كانت تجربة اعتقالي. مفارقة فيها من الألم بقدر ما فيها من الغرابة. تاريخان غيّرا مجرى حياتي ونقلاني من عالم إلى آخر.

فمن زنزانة ضيقة لا تدخلها الشمس، كنت أستيقظ فيها مدمّى بعد جولة تعذيب قاسية تجعلني أغيب عن الوعي. معتقلون كثر ماتوا أمامي لم تحتمل أجسادهم شراسة الضرب، نقلت جثثهم إلى أماكن مجهولة...إلى حضن دافئ يفيض بالحبّ".

ويتابع جاد:

"خلال الاعتقال اعترفت تحت التعذيب بأمور لم أسمع عنها من قبل، وطبعاً لم أقترفها. اعترفت بما يريده جلاّدي، فالكلمات يومها مرهونة بعدد الجلدات والصفعات، اعترافات ملوّثة بالدم، عُرضت على

شاشة التلفزيون عن تفجيرات وأعمال إرهابية كاذبة كان غرضها إقناع العالم بعدم وجود ثورة ضد النظام.

وقّعت على كل اتهام طلبوه مني، المهم عندي أن يتوقف الضرب. خرجت بعد أن أعلنت توبتي أمام المحقق، وشتمت الثورة الكاذبة المسلحة التي تآمرت على بلدنا المقاوم، وبأنني تلقيت أموالاً طائلة من جهات غريبة تتآمر على بلدي لتنفيذ أعمال إرهابية. وعلى الرغم من ذلك لم يخرجوني إلا بعد أن دفع أهلي مبالغ كبيرة لهم. خرجت بشخصية محطمة، نالت الكثير من الذلّ والإهانات والتعذيب.

وصلت إلى أمي من دون ملابس، حافي القدمين، بذقن طويلة، ومن دون أوراق ثبوتية، ومن دون مال يمكّنني من الوصول إلى بيتي. أحدهم أشفق عليّ وأوصلني بسيارته. كانت الصدمة كبيرة على وجوه أهلي عندما رأوني بذلك البؤس. لكن، الأهمّ عندهم أنني خرجت. بعدها خضعت لعلاج جسدي ونفسي لأشهر لأتمكّن من مواصلة حياتي".

ويضيف جاد متنهّداً: "أتذكّر كل ذلك بوجع، يقطعه صوت ابنتي التي رزقت بها في بيروت واسميتها فرح، عندما أحضنها أنسى الدنيا وما فيها من تعب وحروب.

اليوم أنا إنسان جديد، يكره العنف والحرب والظلم، أفكر في مستقبل طفلتي التي أريد لها حياة آمنة وجوّاً حرّاً. وأضمّ زوجتي بحبّ وامتنان لما أنا فيه...".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم