السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"مرادفات" الفائز بـ"دبّ" برلين: صناعة إنسان "جديد" من حطام إنسان "قديم"

المصدر: "النهار"
"مرادفات" الفائز بـ"دبّ" برلين: صناعة إنسان "جديد" من حطام إنسان "قديم"
"مرادفات" الفائز بـ"دبّ" برلين: صناعة إنسان "جديد" من حطام إنسان "قديم"
A+ A-

أول ما يلفت في "مرادفات" للمخرج الإسرائيلي ناداف لابيد الذي أُسند إليه "الدبّ الذهب" في ختام مهرجان برلين السينمائي (٧ - ١٧ الجاري)، هو انه صاحب كاراكتير (طباع) غاية في القوة، لا يخجل ممّا هو عليه، وكأنه يلتزم مقولة جان كوكتو: "طوِّرْ ما تُلام عليه، فهذا أنت". الطباع القوية هيالعنصر الأقل حضوراً في السينما. هناك أفلام جيدة، مثيرة، مسلية، مفيدة، ولكن فقط قلّة منها تمتاز بصلابة كاراكتيرها. بهذه الثقة بالذات التي تحملها إلى اللامتوقع. ثم هناك الموهبة، موهبة المخرج، ويبدو ان لابيد يملك يمّاً وفيراً منها. فيلمه أشبه برقصة، مُقطَّع إيقاعياً لينتقل من النقطة أ إلى نقطة ب من دون خطوة ناقصة.

ولد لابيد لأب روائي وأم مونتيرة. علاقته بالسينما بدأت منذ الصغر. في سن الرابعة، كان يرسم سلالم بوتمكين الشهيرة التي ظهرت في فيلم أيزنشتاين. ولكن ذات يوم، بعدما أنهى خدمته العسكرية، قرر ان يستقل سيارة أجرة إلى المطار، ومنه طار إلى باريس. كان دائم الشعور بأنه لا ينتمي إلى هذا المكان ولا يمكن ان يربط مستقبله بمستقبل إسرائيل، وقد ولد في الشرق الأوسط من طريق الخطأ. فجأة شعر بأوروبيته (أجداده من ليتوانيا)، بعدما أشعرته إسرائيل بإحساس العزلة عن بقية العالم.

هذه أول "دبّ" تذهب إلى مخرج من إسرائيل، ولن أقول إلى "فيلم إسرائيلي"، لأنه جاء نتيجة إنتاج مشترك بين فرنسا وألمانيا وإسرائيل. حتى ان منتجه هو التونسي الأصل سعيد بن سعيد (أنتج لبراين دو بالما وبول فرهوفن وغيرهما). هذا بالاضافة إلى ان فرنسا (باريس) هي مسرح الأحداث والفيلم ناطق بلغتها. لابيد البالغ من العمر ٤٣ عاماً، لفت مع فيلمه "الشرطي" في لوكارنو عام ٢٠١١. جديده ذروة سينمائية، أقلّه في طموحه وخطابه الصريح وتطلعاته وطزاجته، لم يبلغها أيٌّمن أفلام المسابقة الـ١٦. تقدّم بأشواط مجموعة من الأعمال غلبت عليها البلادة وغاب عنها الابتكار.

استلهم لابيد حياته الشخصية: من خدمته العسكرية في جيش العدو التي تعود في سلسلة لقطات على شكل فلاشباك، إلى بعض الأوساط في باريس التي وصل إلى مطارها شارل ديغول قبل عشرين عاماً، وهو لا يملك أي شيء ولا يعرف أحداً. أراد التنصّل من إسرائيل، ومن كلّ ما بات حملاً ثقيلاً، من هويّة وطنية وقومية والتزامات "اخلاقية" تجاهها. أدار ظهره إلى ماضيه، شطب جزءاً من تاريخه، في محاولة للانطلاق "من الصفر". رفض التحدّث بالعبرية مجدداً، محاولاً إيجاد مرادفات بالفرنسية لكلماته العبرية.

نحن ازاء فيلم الانتقال الكبير من شخص إلى آخر. صناعة إنسان "جديد" من حطام إنسان "قديم". ولكن في الحين نفسه،نحن إزاء فيلم لا يخفي علاقة الحبّ - الكراهية التي تبلورت لدى جيل من الإسرائيليين تجاه هوية مركّبة تورطوا فيها، ذلك انها بدت كفخّ استُدرجوا إليه. طبعاً، كثر سيتناولون الفيلم في الأيام المقبلة، وبعضهم سيقول انه فيلم "مناهض لإسرائيل"، وهذا كلام يفتقر إلى الدقّة. فلابيد لا يعادي إسرائيل، انه يحاسبها فحسب، لا بل يقاصصها لأنه وُلد فيها، من خلال صيغة سينمائية شديدة الذكاء والوعي، كونها تنطلق من الذات وتعود إليها كلعبة بومرانغ، على نحو نرجسي، وكأنه مركز الكون، أو كأن كلّ شيء يدور من حوله. السينما هي المكان المناسب لمناقشة مسائل جدية انطلاقاً من الـ"أنا"، بعيداً من ديماغوجية وسائل الاعلام و"تهريجها"، ذلك انها تمد الأشياء بالزمن الذي تحتاجه، والمعنى الذي تبحث عنه. لابيد الذي يخترع نوعاً من "أناه الأخرى" مسميّاً اياها يواف (توم مرسييه)، يضع ذاتيته في نطاق روائي، ومعالجة بصرية عصرية جداً تستخدم خامات تصوير عدة لالتقاط نبض باريس بعيني اليهودي الشارد. توم مرسييه يضطلع بدور يواف ببراعة مكثّفة، حد انه يخطف الفيلم بأكمله. لا مثيل له في إحداث هذا التوازن بين القوة والضعف اللذين تترجح بينهما الشخصية.

هناك فصل كامل عن الوطنية، لعلّه الأشد جرأةً وجمالاً وإثارة للجدل (وزيرة الثقافة الإسرائيلية هنأت المخرج بتحفظ، وقالت انها لم تشاهد الفيلم لكنها أعربت عن قلقها من ان يكون فيلماً "معادياً لإسرائيل"). أثناء تسلّمه الجائزة، قال لابيد إن الفيلم قد يحدث فضيحة في إسرائيل وفرنسا، فهو يعلم جيداً انه يصفّي حسابات قديمة مع الوطنية. في الفيلم، نرى يواف وقد وجد ضالته في قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية. هذه القيم التي يتم تعليمها لطلاب أجانب في إحدى المدارس. مشهد ملتبس، لا أعلم ماذا يراد منه؟ هل تصح قراءته بأنه استبدال عقيدة بعقيدة أخرى؟

بعيداً من السياسة بمعناها المباشر، هذا فيلم يستخدم البدائية لاستفزاز المُشاهد (عري، جنس، جوع، وطن)، بلا أي شعور بالذنب، لاجئاً إلى أساليب تأثير تخرج عن المألوف. مذ مشهد الافتتاحية الذي يركض فيه يواف داخل شقّة بورجوازية فارغة دخلها للتو (استعارة لسينما معينة تعيد ترتيب المكان؟) بحثاً عن ولادة جديدة، وحتى المشهد الختامي الهائل والمفاجئ في طبيعته وقسوته، نحن داخل سينما تقترح نبرة جديدة، تخاطب المُشاهد بلغة تتطلب جهداً معيناً وتضامناً غير مشروط وانغماساً في الحالات التي عاشها لابيد عند وصوله إلى باريس.

أشياء كثيرة تنال الاعجاب في الفيلم: أولاً، العلاقة بين يواف وأميل (كونتان دولمير)، الشاب الذي يدخل حياته من حيث لا يتوقّعه، وهو أشبه بملاكه الحارس. علاقتهما تقوم على مبدأ التبادل والتقدير والحاجة. انها علاقة غاية في العنف الصامت. كلّ واحد منهما يجد في الآخر ما لا يملكه، و"يغار" ممّا لا يستطيع سبيلاً اليه، فيحاول انتزاعه من دون علم الآخر. ثانياً، الـ"بورلسكية" التي ينتجها باستمرار يواف. شيء طفولي عند الأخير، شابليني، ولكن على مزيد من الوجودية. حسّي جداً، بدني جداً (مشهد تصوير البورنو مثالاً). لا يغيّب لابيد الجسد، جسد يواف، سواء عندما يكون عارياً أو مرتدياً معطفه البرتقالي. فالرجولة الإسرائيلية التي اكتسبها عبر انخراطه في الجيش، كما كان يقول في احدى المقابلات غداة عرض "الشرطي"، تمر عبر خوض المعركة (الحرب، الشعور الوطني، القتل والموت من أجل الوطن). يمشي يواف في الشارع كالذاهب إلى معركة، ولكن مسرحها الآن باريس بجادّاتها وعالمها السفلي وحتى محطات المترو. انه عالم يلتقي فيه السياسي والديني والجنسي، ولكن من دون أي انصهار. ينطلق يواف بالاندفاعة نفسها للعسكري. هو يتوق إلى الحرية، ولكن لا يملك أدواتها التي يجدها عند أميل. في المقابل، أميل يملك الحرية ولكن لا يملك اندفاعه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم