السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

دفاعاً عن الثقافة التي تمجّد الحياة

المصدر: "النهار"
Bookmark
دفاعاً عن الثقافة التي تمجّد الحياة
دفاعاً عن الثقافة التي تمجّد الحياة
A+ A-
لا ثقافة حقيقية خارج الثقافة التي تمجد الحياة. ولا سياسة حقيقية من دون فكر إنساني تستند إليه، ومن دون ثقافة تكون شرطاً لها، ثقافة تشكل حياة الإنسان الفرد، وحياة الإنسان الجماعة، وحريتهما وسعادتهما، موضوعها الأساسي. وتأكيداً لهذا المعنى الشرطي للثقافة وللسياسة نستحضر كلمات بالغة الدلالة لثلاثة من كبار أهل الثقافة في عالمنا المعاصر: الأول هو الأديب البناني الكبير عمر فاخوري، الذي يقول بالنص: ليس حسبنا أن نعيش كما نعيش. ينبغي أن نفكر كيف يصح أن نعيش. والثاني هو الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الذي عنونت روايته "الرومنطيقيون" في نسختها العربية بكلمة صغيرة معبّرة من كلماته في الرواية: الحياة جميلة يا صديقي. أما الثالث فهو الشاعر العربي الكبير محمود درويش الذي قال بالأمس في مدينته حيفا، مكرراً ما قاله دائماً وهو يخاطب أرض آبائه وأجداده فلسطين: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولعلي لا أجافي الحقيقة التاريخية إذا ما قلت، في ما يشبه القطع، بأن السمة الأساسية للفكر الإنساني، منذ فجر التاريخ، وعبر العصور كلها، هي تمجيد الحياة، واعتبار أن الإنسان هو القيمة الحقيقية للوجود، وأن حقوقه وحرياته وسعادته هي محور كل المشاريع وكل الحركات الرامية إلى إصلاح حياة البشر، وجعلها دائماً أفضل مما تكون عليه. ولا تستثنى من هذا الفكرالإنساني الرسالات الدينية، التوحيدية، والأديان السابقة عليها.ربما يكون هذا الكلام تكراراً لشعارات غير ذات صلة بالواقع، منذ فجر التاريخ وحتى عصرنا الحالي. ولبعض هذا الشك ما يبرره في هذا الكلام الذي أسوقه عن الفكر الإنساني، انطلاقاً مما دلت عليه التجارب عندما كان ينتقل هذا الفكر إلى الممارسة عبر الذين حملوه. إذ أن الشواهد والأحداث و الوقائع، في هذه التجارب جميعها، قديماً وحديثاً، تشير إلى أن العلاقة بين الفكر الإنساني ورموزه وأهدافه وشعاراته، وبين الممارسة المتصلة بهذا الفكر برموزه والمستوحاة منه ومنهم، والتي تعبر عنها السياسة والخطط والبرامج المحددة لتلك الأهداف والشعارات، والوسائل والأدوات التي تستخدم لتحقيقها، هذه العلاقة بين الفكر والممارسة كانت في الغالب، حتى لا نقول على الدوام، علاقة مشوهة.ولا يختلف الأمر، هنا، بين الفكر العلماني والفكر الديني. وقد كان من أعظم ما ارتبط باسم كارل ماركس، استناداً إلى التجارب التاريخية التي سبقت تجربته، وكان في ذلك متميزاًًً عن سواه من كبار رموز الفكر الإنساني، هو أنه نبّه إلى ضرورة الربط الدقيق بين الممارسة والفكر. وقدم ثلاثة شروط أساسية لجعل تلك العلاقة صحيحة: الشرط الأول هو أن تظل الممارسة أمينة للفكر الذي تعبّر عنه وتسعى لتحقيق أهدافه. الشرط الثاني هو أن يظل الفكر مستقلاً عن الممارسة، أي أن يظل محتفظاً بوظيفته النقدية، من أجل تصحيح الممارسة وترشيدها. الشرط الثالث هو أن يستمر الفكر في حركة دائمة، أي أن يظل في حالة تجدد وتغيّر دائمين، وفق ما تفرضه المتغيرات، التي تأتي بها الأحداث والوقائع في مسار حركة التاريخ، من شروط جديدة. فالفكر الإنساني، بكل مكوناته، هو فكر تاريخي. ولا يستثنى من ذلك الفكر الديني بنصوصه المقدسة. وبهذا المعنى فإن من أخطر ما يقود إليه الإدعاء بثبات الفكر هو أن يتحول هذا الفكر إلى عقيدة. وعندما يصبح الفكر، في حياة البشر، عقيدة، يفقد دوره الأصلي، ويتحول إلى ما يمكن أن يكون نقيض وظيفته، وإلى ما يمكن أن يكون نقيض أهدافه المعلنة والمبتغاة.لكن "ورثة" ماركس وحملة أفكاره، أو من يدّعون ذلك، قد ذهبوا، في معظمهم، في الإتجاه النقيض لفكره، وتجاهلوا الشروط التي وضعها لهم لكي يكونوا أمناء لهذا الفكر في ارتباطهم به، عندما يتصدون لتحقيق أهدافه. إذ تحول هذا الفكر الماركسي، حامل المشروع العظيم لتغيير العالم، في تعامل الكثيرين ممن جعلوه مرجعية لهم، إلى عقيدة. وتحول المؤتمنون منهم على هذه "العقيدة" إلى "قادة" و"سادة"، بالمعنى المتداول في التاريخ وبالمعنى المتعارف عليه للقادة وللسادة. ثم حوّل هؤلاء "القادة" و"السادة" الناس في بلدانهم ومجتمعاتها إلى رعايا، أو ما يشبه ذلك، بفعل الموقع الذي وضعوا أنفسهم فيه، وبفعل الولاءات التي فرضوها على شعوبهم، تحت شعار وحدة المجتمع، كضرورة تاريخية لتحقيق البرنامج الذي حددوا هم، من دون استشارة شعوبهم، أنه البرنامج الذي سيحقق للإنسان سعادته.وهكذا فقدت الشعارات التي تمجد الحياة في فكر ماركس، وفي المشروع الإشتراكي الذي بشّر به، الكثير من معناها الأصلي ومن وظيفتها الحقيقية، في الممارسة، أي في السياسة. ووقع هذا المشروع العظيم في الهاوية، بعد قرن ونصف القرن من الإعلان عنه، وبعد ثلاثة أرباع القرن من الشروع في تحقيقه.وفي ما أسوقه، هنا، من كلام حول الإشتراكية، إنما يأتي من قبل شيوعي عتيق، في صيغة نقد ونقد ذاتي في آن واحد. ولكنهما نقدان، وإن جاءا متأخرين، فإنهما يبتغيان الإفادة من التجربة التاريخية، بالنسبة إلى المستقبل. ولعل ذلك يكون محاولة جديدة تنتمي إلى العصر وإلى شروطه، بهدف إعادة البناء على أسس جديدة، تحترم فيها الأسس التي استند إليها ماركس في صياغة مشروعه، ويجري فيها تجاوز القديم الذي شاخ في العديد من أفكاره ومن مفاهيمه. ففي ذلك احترام منا لجهد هذا المفكر الإنساني العظيم، وأمانة منا لاستشرافه للمستقبل، وتمسكاً بمنهجه المادي الجدلي.إلا أن أخطر ما نواجهه، في هذه الحقبة الصعبة من حياتنا، في لبنان وفي العالم العربي وفي العالم، هو أن الفكر الديني، الذي حل محل الفكر العلماني الإشتراكي والمتأثر بالإشتراكية، قد ساد وسيطر على الوعي، الفردي والجماعي، وعلى حركة الأحداث. وأصبح حملة هذا الفكر الديني، ومفسرو نصوصه المقدسة، على اختلاف أنواعهم، واختلاف مشاريعهم، واختلاف استهدافاتهم فيها، واختلاف أدوات عملهم،...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم