الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أوكرانيا تعود إلى حضن الكنيسة الأم الأرثوذكسية

ايهور أوستاش- سفير اوكرانيا في لبنان
أوكرانيا تعود إلى حضن الكنيسة الأم الأرثوذكسية
أوكرانيا تعود إلى حضن الكنيسة الأم الأرثوذكسية
A+ A-

منذ الاستقلال في عام 1991 لجأت أوكرانيا على الفور لإيجاد طرق لإنشاء الكنيسة الأرثوذكسية المحلية.

المحاولة الأولى، ويا للأسف، لم تكن ناجحة. في العام 1992 على أنقاض الكنيسة السوفيتية الماضية ظهرت ثلاث كنائس – الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية كييف، والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة ذاتياً والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو. إن فهم الحاجة إلى كنيسة مستقلة موحدة، والتي تملك فيها أوكرانيا كدولة مستقلة الحق الكامل الذي لا جدال فيه، قد تصاعدت بعد عام 2014 عندما أطلقت روسيا عدواناً عسكرياً في شرق أوكرانيا والقرم المحتلة موقتاً. ومنذ ذلك الحين بدأ النظر إلى مسألة النضال من أجل الاستقلال عن البطريركية الروسية ليس فقط باعتباره قضية كنيسة، بل مسألة تتعلق بالأمن القومي.

للأسف، بعض رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو يدعمون الأعمال العدوانية التي تقوم بها روسيا ضد أوكرانيا. ثمة أدلة كثيرة على استخدام روسيا للفرع الأوكراني لبطريركية موسكو في الحرب مع أوكرانيا. الاستخدام الرئيسي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو من الأجهزة الخاصة الروسية كان إعداداً لاحتلال شبه جزيرة القرم وتسهيل الكهنة في الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو نشاطات المنظمات الإرهابية في دونباس.

بلغت القضية مرحلة حساسة خوصاً عندما بلغ عدد القتلى الأوكرانيين نتيجة للحرب مع روسيا 10000 قتيل إضافة إلى 25000 جريح و 1.5 مليون مشرد، ومعظمهم من الأرثوذكس.

من نتائج اجتماع الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو وقداسة بطريرك القسطنطينية المسكوني برثلماوس في التاسع من نيسان 2018 كان بداية لمراجعة البطريرك المسألة التي طال انتظارها وهي منح الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية الاستقلال عن البطريركية الروسية.

جميع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية كييف والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة ذاتياً وجزء من أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو والغالبية العظمى في البرلمان الأوكراني استجابوا لدعوة الرئيس لدعم توجيه نداء إلى بطريرك القسطنطينية لإعطاء (الميثاق الكنسي) لتحقيق استقلال ذاتي للكنيسة في أوكرانيا، والتي لحين 1030 كانت ضمن النطاق الكنسي للبطريركية القسطنطينية، وبالتحديد منذ العام 988، عندما اعتنق شعبنا على ضفاف نهر الدنيبر المسيحية من خلال الأمير فلاديمير حاكم كييف وقتها.

في العام 1686، وتحت ضغط الظروف التاريخية الصعبة، لم تكن مطرانية كييف حائزة الـ "قانونية" حيث استولت عليها بطريركية موسكو. ومع ذلك، ورغم الضغوط التي غالباً ما تكون مؤلمة من السلطة الكنسية الخارجية، فإنها فشلت في سلخ المؤمنين الأوكرانيين عن الكنيسة الأم وهي - البطريركية المسكونية.

وصلت عملية إنشاء كنيسة أوكرانية جديدة إلى خط النهاية في نهاية عام 2018.

ففي اجتماع سينودوس الكنيسة المسكونية الذي عقد في اسطنبول في الفترة من 27 لغاية 29 تشرين الثاني 2018، اعتمدت توصيات لميثاق الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا ونص توموس الذي منحها الاستقلال عن البطريركية الروسية.

انعقد اجتماع توحيدي بتاريخ 15 كانون الأول في كييف في كاتدرائية القديسة صوفيا، حضره الأساقفة والكهنة والرعية التابعون للكنائس الثلاث الموجودة فعلا ضمن المنظمات الكنسية الأرثوذكسية في أوكرانيا وهي - الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية التابعة لبطريركية كييف، الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية المستقلة والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، وبالاتحاد معاً تمكنوا من تخطي الانفصال الواقع في الكنيسة في أوكرانيا وأنشأوا منظمة كنسية أرثوذكسية واحدة في أوكرانيا وهي الكنيسة الأرثوذكسية المحلية في أوكرانيا حيث انتخب المتروبوليت ايبيفاني على رأسها. وانضم إلى الكنيسة الجديدة الكنائس الثلاث الموجودة وهي الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية كييف، والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية الأوتكيفاليكية ورقم الضغوط الشرسة جزء من الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو.

تميز الاجتماع التوحيدي بالتاريخية العميقة حيث عقد لأول مرة في كنيسة القديسة صوفيا - أكبر مكان أرثوذكسي أوكراني مقدس بني في القرن الحادي عشر حيث كان يتم اختيار مطارنة كييف. ثانيا، تم الأمر تقريباً في نفس اليوم الذي حصل فيه اجتماع العام 1918 في الكاتدرائية أي بعد مرور 100 عام على محاولة إنشاء الكنيسة الأوكرانية المستقلة ذاتياً في زمن الجمهورية الأوكرانية الشعبية.

الناس الذين تجمعوا في ساحة القديسة صوفيا بكوا فرحاً عندما أعلن عن تأسيس الكنيسة وانتخاب زعمائها.

الاعتراف الرسمي المكتوب - توموس (الكنيسة الميثاق) من البطريرك المسكوني وسينودس البطريركية المسكونية بمنح هذا الاستقلال عن البطريركية الروسية – قام البطريرك المسكوني برثلماوس بتسليمه رسمياً في احتفالية بوجود رئيس جمهورية أوكرانيا بيترو بوروشينكو ورئيس مجلس النواب الأوكراني المنتخب حديثا أ. باروبي إلى زعيم الكنيسة إيبيفاني في مقر إقامته في منطقة فنار في اسطنبول بتاريخ 06 كانون الثاني 2019، عشية عيد الميلاد. وثيقة توموس أكدت رسميا قانونية استقلال الكنسية الأوكرانية ذاتياً باعتبارها واحدة من 15 من الكنائس الأرثوذكسية المحلية في العالم. ثم تبدأ عملية الاعتراف بكنيسة جديدة كبقية الكنائس المحلية - والذي قد يستغرق بعض الوقت.

الكنيسة المنشأة حديثاً هي خطوة حاسمة في عملية بناء الدولة، متشابهة جداً مع حالة إعلان استقلالنا الأوكراني.

جميع الخطوات للحصول على قانونية الاستقلال الكنسي الذاتي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وبخاصة مجلس التوحيد، تسبب في رد فعل قوي جداً في روسيا، وكذلك لدى المنظمات الموالية لروسيا في أوكرانيا. إن إنشاء كنيسة مستقلة عن موسكو معترف بها قانونيا في أوكرانيا، وخصوصاً الانتقال المتوقع للجزء الأوكراني من الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية التابعة لبطريركية موسكو، يؤدي في الواقع إلى فقدان موسكو من خلاله النفوذ الكبير على الحياة الاجتماعية في أوكرانيا. لم يخف الكرملين أبداً أنه يعتبر الكنيسة الروسية آلية لإبقاء الشعوب المجاورة في مجال نفوذها.

تعتبر ولادة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلّة حدثًا مميزًا، حيث كان ينتظره المؤمنون لعدة قرون. وعلى الرغم من أن هذا أصبح ممكناً بسبب وحدة رجال الدين، والرئيس، والحكومة، والبرلمانيين، وجميع الأوكرانيين الذين كانوا يصلّون من أجل تحقيق الاستقلال لكنيستنا، يجب التأكيد على أنه لا توجد وسوف لن تكون كنيسة تابعة للدولة في أوكرانيا. وبالعكس من ذلك، هناك حرية دينية حقيقية، يحميها الجميع بعناية.

لقد أكدت قيادة البلاد مراراً وتكراراً على أن الدولة لن تتدخل في شؤون الكنيسة الأرثوذكسية الموحدة، وأكدت أيضاً أن المؤمنين من رعية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو الذين لا يريدون أن ينتقلوا إليها سوف تحترم الدولة اختياراتهم.

على الرغم من الترهيب الكثيف للمعارضين لتشكيل كنيسة جديدة سواء من طريق مواجهات القوة أم التهديد بالاستيلاء على الأديرة، فإن عملية انضمام إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة تسير بشكل سلمي.

حالياً، منذ اجتماع مجلس التوحيد نقل نحو خمسين جماعة دينية من الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة. ويتم تفعيل هذه العملية بشكل كبير مع تسليم وثيقة توموس.

لفترة طويلة كان هناك أسطورة وهي أن ظهور كنيسة أوكرانية مستقلة لا يمكن أن يتم بمعزل عن الترتيبات مع الكرملين وبطريركية موسكو. لكن التاريخ يعلّمنا أنه ليس من الضروري التفاوض مع روسيا، وليس السبب أن الاتفاق سيئ، ولكن لأنه في مفهوم الدولة الروسية وكنيستها لا توجد أوكرانيا المستقلة ولم تكن أبداً!

هل كنا نتوقع أن يكون رد فعل روسيا مختلفًا؟ لا، لأن روسيا لا تعترف بالحق في وجود كنيسة أوكرانية أو دولة أوكرانية، تعتبرها "خطأً تاريخياً". وحتى اللغة الأوكرانية كانت تُحظر بموجب المراسيم الملكية باستمرار.

في هذه الحالة، يمكن وضع روسيا فقط أمام الأمر الواقع. كانت جمهورية أوكرانيا الشعبية كذلك أمراً واقعاً قبل مئة عام. كان إعلان استقلال أوكرانيا في 24 آب 1991 أمرا واقعا كذلك. كانت ثورة الكرامة في 2013-2014 حقيقة كهذه. اليوم، أصبح المجلس التوحيدي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة واستلام وثيقة توموس أمراً واقعاً وحقيقة ذات أهمية حضارية. وهذه الحقيقة مرة أخرى تذكّر الجميع أن مستقبل أوكرانيا لا يتم صنعه في موسكو، وإنما في كييف، ويصنعه الأوكرانيون أنفسهم الذين لا يحتاجون إلى الإذن والموافقة من أولئك الذين يعتبرونهم غير موجودين.

ونتيجة لذلك، نالت المسيحية الأوكرانية مرة أخرى كنيستها الخاصة، كما كانت من 988 إلى 1686.

إن خطوة إنشاء كنيسة محلية خاصة على مدى أكثر من ألف سنة قد اكتملت. لكن الكنيسة نفسها في أوكرانيا سوف تستمر في النمو عدديًا ونوعًا. ويمكن أن تمتد عملية نمو عدد الرعايا والمؤمنين الجدد لأشهر أو حتى سنوات، ولكن ستكون الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية الجديدة واحدة من أكبر الكنائس الأرثوذكسية في العالم لتصبح عاملاً مهماً في الحياة الأرثوذكسية. ومدينة كييف مرة أخرى، كما كانت قبل عدة قرون، سوف تصبح مركزاً قوياً للأرثوذكسية في أوروبا الشرقية.

لطالما كانت الكنيسة اللبنانية بالنسبة لي رمزًا للحرية. العديد من الرهبان والمؤمنين المضطهدين عثروا على مأوى في الجبال اللبنانية التي يصعب الوصول إليها. مثلها كمثل الكنيسة الأوكرانية، عانت هي أيضا من اضطهاد جيرانها الكبار ومحاولاتهم للامتصاص. عندما أكون في الأديرة الجبلية اللبنانية أرسم دائماً أوجه الشبه مع دير بيشيرسكا لافرا في مدينة كييف وكذلك دير مانياسكسكي سكيت في منطقة الكاربات.

آمل أن يدعم اللبنانيون الأرثوذكس الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة الأوكرانية، رغم النداءات المشكوك فيها لبعض الكنائس بعدم الاعتراف باستعادتها. على الأقل لأن ظهور كنيسة أوكرانية مستقلة هو إعادة للعدالة التاريخية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم