الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مراسَلة عن الوجع السوري بين صديقين سوريين مقيم وشريد

مصطفى علوش
A+ A-

كتب لي صديقي العتيق، من قلب الوجع السوري:

"أيّ رعب هذا الذي نحياه يا صديقي. آه! نحن محكومون فقط. محكومون. وعذراً سعد الله ونوس. ثمّ من ادعى أننا ولدنا أحراراً؟ لا. نحن عبيد. صدقاً، يكلّلني الحياء عندما أقرأ نصاً، ولا أجرؤ على إبداء رأيي لكاتبه! كم أتألم عندما لا يمكنني التعبير لأنني أخاف. نعم، لا تتعجب. حتى عندما أتنقل بين المواقع، أرتعد خوفاً لقراءة "زمان الوصل" مثلاً، أو عندما أقرأ مقالاً لإنسان مهاجر، يكتب بصدق وموضوعية. أخاف وكل ما حولي مخيف، أرتعد خوفاً إذا ما رنّ الهاتف، إذا ما قُرع جرس المنزل. الرقيب أدمن داخل كل منّا هنا. نحن هنا لا شيء. سمِّنا أشباحاً، سمّنا رهائن. نبكي بصدق. نعم، نبكي كثيراً حتى ملّتنا الدموع. ماذا يراد بنا؟ يتحاشى واحدنا الآخر، كل واحد يرتاب بالآخر، يتجنبه، مثلما كان معظمنا يتجنب زيارة سجين سياسي خوفاً من المساءلة، فتراه في عزلة اجتماعية، كما منفردة قبوه الرطب، لا نزال نقول ما لا نريد. ألسنا بشراً؟ أي خراب هي المعمورة؟".

قرأتُ ما سبق وعدتُ فوراً لأذكّره بكتاب الراحل ممدوح عدوان وهو يحلل آليات الذعر التي تعيشها الناس في ظل الاستبداد، وأذكّره برواية "1984" وعشرات الكتب التي قرأناها وكانت ترسم حال الناس تحت رعب الطغاة.

إلى صديقي، ومعه، أكتب: آه يا صديقي لو أستطيع أن أرسل لك الأمان ولو مع الطيور المهاجرة، لو أستطيع أن أقفز نحو البلد كمارد أسطوري في لحظة، وأزرع الفرح بدل الكراهية والخوف، أزرع الحرية بدل السجون، لو أستطيع إرسال الهواء النظيف إلى هناك بدل هواء الحرب والرعب.

نعم يا صديقي النبيل كالقهر كالدمع، الرائع والخائف كعصفور مذبوح، هكذا هو الآن، الحاضر المرعب. كل الأغاني صادروا منها الفرح، نعم وأكثر. هل أقول لك إنكَ أبكيتني أكثر من بكائي؟ هل أقول لك إن أحلامي معظمها مسكونة بالخوف من الاعتقال، وغالباً ما أرى نفسي في الحلم هناك في بلدتي سلمية، حيث أسأل ذاتي: لماذا أنا هنا؟ لا بدّ سأعتقل، ثمّ أصحو صباحاً شاكراً القدر على نعمة اللجوء والهروب.

صدِّقني، أدركُ تماماً مدى القهر في الداخل، وأدركُ مدى الذعر العام حيث يتم تطبيق تجربة بافلوف الشهيرة، ولكن هذه المرة على شعب بكامله، وفي كل مرة أو في كل ساعة على الناس أن تعتاد على إشراط قهري جديد.

يا صديقي، كنتُ أنتظركَ وأنتظر كلماتكَ ولا أزال. فرغم الذعر الذي نعيشه هناك وهنا، فربما ينبت الأمل من جديد، وقد نستيقظ صباحاً لنقرأ معاً قصائد رياض الصالح الحسين برفقة صباح جديد على البلد.

أعرفُ أن الكلام متعبٌ مثلنا، وحزين، ولكن هل نملك نحن سوى الكلمات أدة للتعبير وللحياة!

يا صديقي الذي أدمنت صناعة الحياة من قلب العدم، لا أزال أؤمن بأن المستقبل للناس ولا يمكن لهذا القهر العام أن يدوم.

أتذكر؟ كما في كل مساء، كناً معاً نصنع الشاي ونشرب نخب الفرح، كيف كنا نداوي القهر بالغناء؟!

يا صديقي القديم، كل كلمة كتبتَها لي هنا، تعني أكثر من معناها بكثير، كلماتك تعبير عن فيض الروح السورية، وهي تئن من هذه الحال، معلنة استحالة استمرار هذه الحال.

يا صديقي، ربما علينا أن نتمسك أكثر من السابق بالحب والحرية، وربما علينا التمسك أكثر بالعدل والحق، وربما علينا معاً الغناء ضدّ كل هذا القهر العام.

لي هناك أنتَ وبقايا حكايات قديمة، لي هناك قبر أمي وأبي وقصص حبي العتيقة، لي هناك كل شيء، مع أني مثلك تماماً لم أملك يوماً ولا حتى شبر تراب، لي هناك خيباتي وفشلي المديد وفقري، لي هناك أنتَ وبعض رغيف خبز تقاسمناه معاً طوال عمر، لي هناك نهر وبرارٍ وآه طويلة جداً. لي هناك أمل وحرية وبيدر من حبق.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم