الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أنين الكتابة العتيق

مصطفى علوش
أنين الكتابة العتيق
أنين الكتابة العتيق
A+ A-

هنا في هذه المدينة الألمانية الجميلة، باسوم، أتابع حياتي بمنتهى الهدوء والصمت، أتفقد شوراعها ليلاً وأنا أسير فيها، أتساءل عن تاريخها البعيد والقريب، حيث تعرفتُ إلى أسماء بعض العائلات اليهودية التي أحرقها هتلر في أفران الغاز، بينما تقول فتاة سورية سلفية عن الهولوكست ربما لم يحدث، تردّ عليها مدرستنا الألمانية بحقائق، فتعرض لها ضمن ما تعرض اسم أشهر وأكبر معسكر معتقل نازي في بولونيا، "أوشفيتز بيركينو"، التي كانت تحتلها القوات الألمانية.

هنا أتفقد الوقت والأمكنة، أتفقد ذاكرتي البعيدة والقريبة، أتابع ترّهات البعض على الفايس بوك وفي بعض المواقع الإعلامية. لو كان هناك قانون فعلي يحكم عمل وسائل "دكاكين" الإعلام السورية المعارضة، لتمّ إغلاق معظمها بسبب الترويج للكذب.

هنا في غرفتي الصغيرة أراقب المارة العائدين من أعمالهم، أحسدهم لأن عندهم أعمالاً، أما أنا فالطريق لا يزال أمامي طويلاً لأجد عملاً. هنا أتفاهم مع وحدتي وأحاور ذكرياتي باحثاً عن إجابات ما عن مشكلات ومصائب مرت في حياتي.

هنا لا أدّعي الإصلاح والتنوير، فأنا محض إنسان بسيط أبحث عن فسحة من حياة في هذا الكوكب البائس، أراقب ألوان التطرف والرعب القادم من بلاد الشرق، أقرأ وحيداً ما يسمح به الوقت وحين أغفو أحلم بذلك الحي الذي أمضيت فيه طفولتي.

في ذلك الحي، كان أبو علي بائع الحليب واللبن في دكانه الترابي، ونساء الحي يشترين من عنده؛ الحدّاد الذي كان يصنّع قاطرات الحديد؛ البيوت الترابية القديمة التي أعرفها بيتاً بيتاً وشجرة الجيران العالية. هنا لعبنا وبكينا وفرحنا. هنا تعرفتُ إلى الخوف وتغلبت عليه. هنا عصافير الدوري وطيور السنونو. هنا كان معمل البلوك، وذلك الرجل المرهق الذي كان يعمل عشر ساعات محاولاً العيش كإنسان.

هنا كانت حياة مضت بسرعة هائلة.

إنه الزمن الذي يلعب بنا، أتفقده في كل لحظة لحظة هاربة، أرمي بي في الحاضر فيهرب الحاضر بعيداً.

هنا في غرفتي الصغيرة، أتابع تواصلي الإجتماعي عبر الواتس آب وبقية وسائل التواصل الاجتماعي. أتابع أخبار العالم وأرى كيف يمكن وسائل الإعلام أن تتحول إلى مبغى كبير تحرّكه الأموال القذرة.

في لحظات، أنفجر وحيداً على شكل ضحكة طويلة، ثم تتلوها دمعة، كممثل يتيم في صحراء عربية خاوية وميتة.

أكتبُ لروحي كي لا أفقد آخر أوراق الحياة. أصرخ وأغنّي وأصمت وأضحك طويلاً ولا سيما حين أراقب الكرة الأرضية من نافذة التلفزيون فأشاهد الهزات السياسية والبراكين الطبيعية وانتشار مزابل التحليل السياسي لأوضاع العالم الراهن. أغلق أخر صفحة من كتاب أمين معلوف، "إختلال العالم"، وأبدأ بقراءة "رواية النمل".

أمزق نصيّ هذا، نصيّ الذي أشعر أنه مرهق ووحيد وتنقصه الحياة. أمحوه وأبدأ من آخر لحظة حياة عشتها فلا أجد إلا بقايا لحظات نادرة.

هنا في غرفتي الصغيرة أقرأ الشعر وأسمع الموسيقى، وفي الروح أنين طويل، ربما تعود جذوره إلى زمن قابيل وهابيل وآدم، وإلى زمن آخر قرد بشري نسي مرحلة القرد ودخل في طور الإنسان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم