الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بيروت يا عَيْنَيّ

أكرم مكناس
بيروت يا عَيْنَيّ
بيروت يا عَيْنَيّ
A+ A-

هناك الكثير والكثير من المباني في لبنان التي يمكن تصنفيها على أنها مبانٍ تراثية، والأهم من ذلك أن بيروت هي تراث بمجملها، ويجب فعل شيء ما من أجل إنقاذها من الإهمال والخراب، وعلى الحكومة اللبنانية - سواء أكانت معنية بالحفاظ على الثقافة الوطنية أم لا- أن تكون قادرة على وضع يدها على المباني التراثية، وأن تعيد بناءها أو ترميمها، بدلاً من أن تبقى كل تلك المباني التراثية الرائعة كالأطلال في وسط المدينة.

كان ذلك نص رسالة بعثت بها إلى المعنيين في لبنان، وأعتقد أن هواجسي تلك يشاركني فيها كثير من اللبنانيين وغير اللبنانيين ممن يستذكرون بأسى ماضي لبنان وبيروت تحديداً عندما كان "سويسرا الشرق" بمبانيه وتراثه وانفتاحه الثقافي والحضاري على العالم، ويرون ما آل إليه حال هذا البلد الآن من تدهور على جميع الأصعدة تقريباً، ومن بينها إهمال واختفاء كثير من مبانيه التراثية.

تفقد مدينة بيروت جمال أبنيتها التراثية والقديمة تدريجاً، مثل أوتيل كارلتون الذي هدم في العام 2008، لكن خسارة الأبنية لا تقتصر على هدمها بل تشمل التعدي عليها أو ترميمها عشوائياً، فالبيت الأصفر في منطقة السوديكو مثلاً، ورغم قيمته التاريخية والمعمارية، فقد كثيراً من قيمته بعد هدم المباني المحيطة به وبناء الأبراج حوله، وهذا ما ينطبق على بيت فيروز وبيت داهش في زقاق البلاط أيضاً، وقصر تقي الدين الصلح قبالة مبنى سبيرز، والقائمة تطول.

لقد كان عدد المباني التراثية في بيروت وفقاً للإحصائيات الرسمية 1016 مبنىً، لكن بعد عامين، وبقدرة قادر، جرى إسقاط صفة "تراثي" عن نحو نصف هذا العدد، وصولاً للعام 1998 حيث جرى تصنيف 209 مبانٍ فقط كمبانٍ تراثية ينبغي حمايتها، وفي العام 2007 تقدمت الحكومة اللبنانية بمشروع قانون لحماية المنازل القديمة والتراثية في لبنان، لكن لم يُسمع عنه شيء بعد ذلك!.

الحرب الأهلية اللبنانية أنتجت مجتمعاً مشوّهاً في كثير من نواحيه، وخصوصاً العمرانية منها، خاصة وأن المعارك تركّزت في وسط بيروت الذي أصبح بين ليلة وضحاها خطوط تماس فاصلة بين البيروتين: الشرقية والغربية، لكن أكثر من ثلاثين عاما مضت حتى الآن على انتهاء تلك الحرب، وآن الأوان لمحو آثارها بالأفعال وليس بالأقوال فقط.

تلك الحرب جاءتنا بنظام حكم قائم على المحاصصة وتقاسم السلطة بين المجموعات الإثنية والطائفية التي أساءت إلى المباني التراثية أيضاً، وذلك عندما حاولت كل التعاطي مع التراث بانتقائية، فتبرز ما يثبت امتدادها التاريخي في لبنان وتهمل ما يمت إلى المجموعات السياسية المنافسة بصلة.

هل نحن أمام حالة محو متعمد لمدينة بيروت، المدينة التي كانت تتغنّى بوسطها التقليدي الحامل للثقافة والذاكرة وخرائط العمران، بأسواقها وساحاتها ومسارحها ومراكز الثقافة والفن فيها؟. إن بيروت تخسر يومياً نسيجها الاجتماعي والعمراني، في ظل تواصل عمليات الهدم الممنهج للمباني التراثية وما يرافقها من انتهاكات ومخالفات جسيمة تستهدف الإرث الثقافي للعاصمة وهويتها وذاكرتها، في غياب مخطط توجيهي للعاصمة يفتح آفاق التطوير ويحمي التراث المبني والطبيعي.

نحتاج إلى قانون عصري لحماية الأبنية التراثية في كل لبنان، وإلى بلورة تصور مستقبلي لبيروت وكل لبنان ضمن مبدأ التوازن بين المصلحة العامة والحقوق الخاصة المصونة دستورياً، والتحرك السريع والجاد لحماية تراث بيروت العمراني والمحافظة على هوية المدينة ومخزونها الثقافي.

ومن المؤسف أن حضور التجمعات الفكرية والأدبية التي تتناول قضية أهمية المحافظة على المباني التراثية في بيروت يقتصر تقريباً على من تجاوز الأربعين أو حتى الخمسين من العمر، ويعكس حسرة الأجيال القديمة على مدينة ضاع كثير من معالمها وملامحها، فيما نحن بحاجة إلى توعية الجميع وخصوصاً الشباب على أهمية تراث بيروت، فربما يكونون أكثر قدرة منا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مباني بيروت التراثية بعدما عجز الجميع عن حمايتها ومنع التعديات عليها.

وإن اكتساح المشاريع العمرانية الضخمة للمناطق التراثية من بيروت ينعكس سلباً على الجميع، بمن فيهم أصحاب تلك المشاريع، فنحن لا نريد لبيروت أن تكون مدينة أطلال مثل تدمر، لكننا لا نريدها أيضاً أن تكون دبي أو هونكونغ، لا نريدها مدينة هجينة وغريبة، مُسيّجة بالوهم والفراغ، بل نريدها بيروت التاريخ والمستقبل في أن واحد.

فميزة مدن مثل بيروت والقاهرة وقرطبة هي أنه يمكن لكثير من شعوب الأرض أن يجدوا فيها صوراً لهم، ولقد كانت بيروت في الستينات والسبعينات مثل نيويورك الآن، تتعايش فيها الكثير من الطبقات التاريخية والاقتصادية والثقافية، والجميع يؤمن ببيروت كماض وحاضر ومستقبل.

ولا شكّ أن بيروت في حالة تطوّر مستمرّة عمرانيًا، ولكن ذلك لا يمنعنا من الحفاظ على ثروتها التراثية كغيرها من المدن المتطورة في العالم، التي على الرغم من حداثة عمرانها أبقت على أبنية قديمة تمثّل تاريخها وهويّتها.

إن المحافظة على مباني بيروت التراثية تعني المحافظة على تراث بيروت الأدبي والفني والشعبي، وتعني أيضاً استذكار ماضي العيش المشترك بين مسلمي بيروت ومسيحييها، ويقدمها كمدينة تمكنت من استيعاب كل الأحداث التاريخية والحملات الاستعمارية عليها، وهضمها، وإعادة تقديمها للعالم في طابع متجدد مستمد من بيروت التاريخ والحضارة.

عندما نحافظ على مباني بيروت التراثية، فإننا نعزز ارتباط جيل الشباب والأجيال القادمة بأرضهم وهويتهم وحضارتهم، وننمي فيهم حس المواطنة والانتماء، وأعتقد أن هذا ضروري جداً لمنع المحاولات الخارجية الساعية إلى طمس تاريخ لبنان وجرِّه إلى التقوقع، ومن أجل الحفاظ على هوية لبنان الحضارية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم