الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"السترات الصفر"... نقاط مشتركة مع "شعبويّة" الخمسينات؟

المصدر: "ذا كونفرسايشن"
"النهار"
A+ A-

اليوم، تواجه الحكومة الفرنسية تهديداً وجودياً بسبب ضريبة غير شعبية، لكن هذه المرة من قبل "السترات الصفر". وبالرغم من أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل #ماكرون ألغى خطته الحكومية، لا تبدي المظاهرات مؤشرات باتجاه التراجع. يعتقد الكاتب أنّ الاحتجاجات البوجادية التي يدرسها كجزء من مشروع كتاب عن الاقتصاد السياسيّ لفرنسا، يمكن أن تلقي الضوء على الاضطرابات الحالية وكذلك على تيارات شعبوية أخرى حول العالم.


رمز قوّة

بدأت حركة "السترات الصفر" في تشرين الثاني كردّ على فرض ضريبة على الوقود من أجل أهداف بيئيّة. أدّت السيارات والشاحنات والجرّارات دوراً حيوياً في حياة الفرنسيين الذين يعيشون في الأرياف والضواحي. ولامبالاة الحكومة تجاه هذا الواقع، أثار غضب المواطنين الذين لا يعيشون في المدن الكبرى. لقد تُركوا مهمّشين لفترة طويلة من قبل النخب الفرنسيّة التي تعيش في المدن والتي لن تتأثّر كثيراً بفعل ارتفاع أسعار الوقود. السترة الصفر نفسها تجسّد بشكل مثاليّ الشعور بالمظلوميّة.

يفرض القانون على جميع السائقين الفرنسيّين الاحتفاظ بسترة صفراء في سيّاراتهم لحالات الطوارئ. ومن الناحية العمليّة، هي لباس رخيص ومتوفّر أصلاً للمنخرطين في الحركة. علاوة على ذلك، تشكّل هذه السترة رمز قوة لأنّ السائقين يرتدونها لجذب الانتباه خلال حالة طوارئ. وهذا ما يحاول العديد من المتظاهرين فعله بالضبط حين يسيرون في الشوارع وهم يرتدونها. لكنّ المظاهرات تطورت من اعتراض محض على الضريبة إلى موضوع أشمل يضم مروحة واسعة من الآراء السياسيّة.


ماذا تقول الأرقام؟

يظهر استطلاع رأي حديث أنّ حوالي 42% من المحتجّين دعموا مارين لوبان في الانتخابات الأخيرة. وبيّن الاستطلاع أيضاً أنّ 20% منهم دعموا اليساري المتطرف جان لوك ميلانشون في حين أنّ آخرين كثراً اقترعوا بورقة بيضاء أو حتى المحافظ فرانسوا فيون. وربّما بسبب عدم تمتّع الحركة بقائد، طالبت بكل شيء بدءاً من فرض ضريبة على الثروة وصولاً إلى زيادة الضمانات الاجتماعيّة. يريد الطلاب عودة الحكومة عن مقترحات لإصلاح تربويّ، بينما يطالب متظاهرون أكثر راديكاليّة بتغيير حكومي جوهري. وفوق كلّ ذلك، أدخل "المكسّرون" والفوضويون العنف إلى ما كانت في الأساس مظاهرات سلميّة، ممّا أدى إلى اعتقال المئات وسقوط جرحى.

تحت ضغط هائل، تراجع ماكرون في 5 كانون الأوّل عن الضريبة على الوقود. لكنّ الاحتجاجات استمرّت يوم أمس مع تقارير عن مزيد من العنف ومؤشّرات إلى أنّها ستستمرّ. والحديث المسترسل لبعض المتطرفين عن إسقاط الحكومة بالعنف مع لاسامية صغيرة لكن متزايدة ساهما في عدم تهدئة الوضع. إنّ مقاربة للضرائب المرهقة تقوم على عارض وجود نخبة غير عادلة هي نظرة مشتركة تمتّع بها بيار بوجاد وداعموه في ذلك الوقت. إنّ مظاهراته، كما مظاهرات اليوم، مثّلت رفضاً شعبوياً ل "النظام" الذي رأته الفئات الدنيا من الطبقات الوسطى على أنّه يهمّشها ويخدم النخب فقط.


بين الخمسينات واليوم

في الخمسينات، كانت فرنسا خارجة جديثاً من المعاناة التي تسبّبت بها الحرب العالميّة الثانية والاحتلال الألمانيّ وحكم فيشي شبه الفاشيّ. من أجل إعادة الإعمار، تبنّى قادة الجمهوريّة الرابعة نظاماً من التخطيط الاقتصاديّ لتحويل كميات كبيرة من الاستثمار المركزيّ في صناعات محدّدة. يعتقد عدد من المؤرّخين أنّ ذلك ساعد في النمو الهائل الذي شهدته فرنسا أوائل السبعينات. لكن كان لذلك تأثير سلبيّ على الملايين من أصحاب الأعمال الصغيرة، خصوصاً أولئك الذين يعيشون خارج المدن الكبرى الذين كانوا يعتقدون أنّ ضرائبهم كانت تُحوّل لمساعدة الأعمال الكبيرة في السيطرة على الاقتصاد.

تتبع حركة "السترات الصفر" كثيراً تقليد التيارات المناهضة للنخب قبلها وخصوصاً البوجاديّين. اليوم، كما في السابق، أداء الاقتصاد الفرنسيّ جيّد بشكل معقول، مع نسبة نموّ سنويّ تتحسّن منذ سنة 2012 وهي حاليّاً قريبة من 2%. لكن كما في الخمسينات، ليست الأوضاع جيّدة للجميع. تبقى نسبة البطالة معاندة عند أعلى من 9% وتصل إلى 15% بين من لم يحصّلوا الشهادة الثانوية. تظهر بيانات قدّمها الاقتصاديّ الفرنسيّ توماس بيكيتي اتّساع غياب المساواة في الدخل منذ الثمانينات. والأهم، إنّ ارتفاع كلفة المعيشة يصعّب على الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى تأمين متطلّباتهم، في وقت يتمتّع أصحاب الامتيازات بنمط حياة لا يمكنهم تخيّله.


"شيء أعمق"

كلّ ذلك يشكّل صدى لتحرّكات البوجاديّين، لكن ل "السترات الصفر" استجابة للتحدّيات الاقتصاديّة تختلف جداً عن استجابة البوجاديّين. اليوم، ما يهمّ أكثر، هي المكاسب المتفاوتة للعولمة. على الرغم من أنّ عالم الأسواق المتداخلة بعمق أفادت كثيرين في فرنسا، همّشت العمّال وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين افتقدوا للمهارة التي أمكن أن تفيدهم. ويرى البعض أنّ سياسات ماكرون تفاقم غياب المساواة وتنحاز للنخب عوضاً عن الطبقات الدنيا. إلى جانب الضريبة على الوقود، كان قراره بإلغاء الضريبة على الثروة وخطته بجعل دخول الجامعات أكثر انتقائيّة قد عزّزا صورته المؤيّدة للنخبة.

إذاً كيف سينتهي كلّ ذلك؟ تمكّن تيار بوجاد في ذروته من كسب 52 مقعداً داخل الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة. انتهت البوجاديّة في نهاية المطاف، لكنّ ديمومتها تظهر كيف تحوّلت إلى شيء أعمق بكثير من مجرّد اعتراض على الضرائب. هذا "الشيء الأعمق"، التشكيك بالنظام، يتشارك به محتجّو "السترات الصفر"، ويشرح لماذا على المراقبين ألّا يتفاجؤوا من أنّ تراجع ماكرون عن الضريبة على الوقود لم يساهم بتهدئة المحتجّين.


مفارقة ماكرون

إنّ غضبهم ضدّ النخب المنعزلة يربط اعتراضات "السترات الصفر" بحركات شعبويّة في بريطانيا والولايات المتّحدة وغيرهما. في جميع هذه الدول، برزت الشعبوية كنتيجة لعدم المساواة في المكاسب الاقتصاديّة التي نتجت عن العولمة. على سبيل المثال، حين استرجعت غالبيّة النخب خسائرها خلال العقد الذي أعقب الأزمة الماليّة سنة 2008، رأى جميع الآخرين تقريباً أنّ مداخيلهم وثروتهم لم تتغيّر.

حين وصل ماكرون إلى الرئاسة سنة 2017، أمل كثر بأن يتمكّن من امتصاص الغضب المناهض للنخب الفرنسيّة داخل حزبه الشاب. لكنّ مفارقة "الشعبوية الوسطيّة" لدى ماكرون لم تنتج التغيير الذي أراده كثر وتبيّن ذلك في دعم غالبيّة الفرنسيّين للمظاهرات. إنّ حركة "السترات الصفر" ستتطلّب أكثر من سياسة ضريبيّة لتفاديها كما سيصعب التنبّؤ بتأثيراتها المستقبليّة. بعد كلّ شيء، من بين أوّل المشرّعين الشباب الذين انتُخبوا على لائحة بوجاد كان جان ماري لوبان، الرجل الذي أنشأ اليمين المتطرّف المعاصر في فرنسا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم