الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بين السيرة الذاتية والمتخيّل في قصيدة "القلعة الثامنة" للشاعر علال الحجام

المصدر: "النهار"
أحمد الحجام
بين السيرة الذاتية والمتخيّل في قصيدة "القلعة الثامنة" للشاعر علال الحجام
بين السيرة الذاتية والمتخيّل في قصيدة "القلعة الثامنة" للشاعر علال الحجام
A+ A-

يقف العنوان رأساً بكثافته الدلالية ليشكل العتبة الأساس وثقب التلصص، الذي يطل القارئ من خلاله على أسرار النص الابداعي، ويتيح له فرصة نادرة لتبديد الإحساس بعدم اليقين، الذي قد ينتابه أمام هيبة النص والتباساته الدلالية. فالعنوان - كعلامة سيميائية مساعدة على الرؤية من الخارج نحو الداخل - يظل هو مفتاح النص ودليله في انتظار ما ستفصح عنه مغامرة القراءة من مفاجآت.

من هنا يأتي العنوان باعتباره نصاً موازياً paratexe يغري بالتحليل في قصيدة الشاعر المغربي علال الحجام "القلعة الثامنة" كأحد النصوص الأثيلة ضمن مجموعته الشعرية الرابعة الموسومة "في الساعة العاشقة مساء"... عنوان مغوٍ، يحفّز على الولوج إلى تشاكلات النص والحفر عميقاً في بنيته المرصوصة بإحكام . هي إشارة مركبة من كلمتين، قد لا تحققان الفهم الموحد في تباينهما منذ اللحظة الأولى، بيد أنهما تفسحان مجالاً واسعاً للقراءة، إذ إن القارئ الحصيف لن يعدم النباهة الوقادة التي ستقوده لا محالة إلى تأويل رمزية القلعة، باعتبارها موانع حقيقية للأخطار الدخيلة وعواصف الفتن، ولعل ذلك ما ألهم الفرس قديماً لاتخاذها قطعة مؤثرة pièce maîtresse في حرب السواد والبياض /الشطرنج . فهي رمز الصمود والاطمئنان، غير أنها قد تتحول بحركة طائشة إلى صرح للانهيار وساحة للهزائم.

في قصيدة "القلعة الثامنة" لعلال الحجام تتدفق المتواليات الصوتية بأنواعها المختلفة (الإيقاع، الوزن، القافية والنبرة ...) خدمة لحبكة الدراما الصغيرة بمفهوم كلينت بروكس Cleanth Brooks، والتي استهل الحجام " فصلها "/ مقطعها الأول بحضور صوتي لافت ترجم إحساس الشاعر المرير بالخيبة جراء ما أبداه "الصديق" اللئيم من صنوف النكران، حيث لاحت الكلمات في مطلع النص وكأنها خطاب مباشر في لحظة مكاشفة، أو مونودراما قصيرة، عكست - بكلماتها المصقولة كقطعة الماس - الوجه المشوه للصداقة، وذلك من خلال معجم شفيف، حرص الشاعرعلى انتقاء مفرداته بعناية فائقة، تكاد تخلو من أي ترميز أو إيغال في الفذلكة اللغوية:

سلام على سيد لا يرد السلام

سلام على صاحبي

سلام على صاحب

لم يعد صاحبي

وعلى من محا من مذكرة الجيب

اسمي وعنوان بيتي

اتقاء الرقيب

على جاحد وحبيب

ولعل ما يلفت الانتباه، في المقطع الثاني من القصيدة، جنوح الشاعر علال الحجام، كما عودنا منذ ديوانه الثالث "احتمالات"، نحو توظيف معجم الطبيعة بما تخلفه مسمياتها الحالمة من تأثير نفسي على المتلقي،

وبما تنميه لديه من إحساس بالتماهي وبتصالح الأضداد... إنه المعجم النابض بالحياة الذي يخضرّ في براري القصيد خمائل موشاة من القول الشعري المنسجم مع مخيال الشاعر وأحاسيسه .بيد أن المعجم الأخضر قد يتلون بالسواد من خلال النظرة المرتابة المرتبطة بالذكريات الأليمة، التي ترخي بسدولها على أجواء النص.

وبتحريك رافعة القراءة حول محيط "القلعة" قليلاً أكثر، يتاح للقارئ إحصاء قرميدها الأحمر، الذي حولته ذائقة الشاعر- في استعارة مذهلة - إلى منديل تلوّح به "القلعة " مودّعة، حاملة معها أجمل الذكريات، دلالة على ما للمكان من سلطان على الوجدان وما له من حيوية التفاعل والوفاء، على عكس الإنسان/ الصديق المجبول على الخيانة .

يلوّح قرميدها لي بعيداً

بمنديله الأحمر

يصلّي صلاة الغياب

عابراً روضة الذكريات الشفيفة ضجت

مزاهرها بالغناء

هكذا ينساب النص رقراقاً كقناة دافقة من التصوير والرسم والإيقاع ليحقق القراءة المنسجمة بتعبير فرانسوا راستييي François Rastier .. إنها طاقة الشاعر الخلاقة وقدرته على مزج النور بالعتمة، السواد بالبياض بحثاً وراء الحقيقة المرة عن مكامن الجمال... حقيقة العيون التي انخدعت وسقطت في العماء، والزهور التي خاصرت نارها، في إشارات خاطفة وخطاب مرمّز إلى المفارقة المرة التي فتح الغدر والجحود ندوبها عميقا في وجدان الشاعر.

في الجزء الأخير من المقطع الأول، تقيم "القلعة" كرمز غير موحد الدلالية زوبعة من الفوضى، فهي الصرح المتين بجبروت ذكرياتها العالقة بنياط القلب تارة، وهي ركام من الخيبات تارة أخرى. وهذا لعمري ما يورط المتلقي أكثر في مغامرة القراءة، ويدفعه نحوالانخراط، بل المشاركة في الإثارة والاستكشاف، والغوص أعمق فأعمق في مجاهل النص سعياً وراء المعنى ورغبة في ملامسة جماليات النص الكامنة بين سطوره . لكن مع الحذر وضرورة الاقتناع بأن كمال النص الشعري يجب أن يظل في حيز الإمكان الذي تقترحه القراءات المتعددة، لا في حيز التحقيق ويقينية المعاني... ولا أدل ذلك من لجوء الشاعر علال الحجام في أكثر من سطر شعري في هذه القصيدة إلى نقط الحذف، وإلى الفراغ الدلالي المؤثث للهيئة الطباعية في نسيج النص، الذي يمكن اعتباره عنصراً إضافياً مولداً للدلالات، وليس مجرد عنصر محايد فائض عن المعنى.

تستمر مغامرة القراءة على إيقاع قصيدة "القلعة الثامنة" لعلال الحجام وهي تعزف على كمنجات الألم مقامات توزع الحيرة والقلق على أوتارها، هي التواقة إلى هرمونيا مثالية لا تتحقق بين ذات الشاعر وواقع مخيب للآمال:

الأغاريد تنساب

قد خانها في مقام البياتي مطلعها

لم أصد...

عطشت في توهج موالها

فسقاها لهيبا تمرد منبعها،

... آه من صدئات المدى،

بالرجوع إلى متنه الشعري، فإن القارئ المتتبع لنصوص الشاعر المغربي علال الحجام، لا شك أنه سيلاحظ العديد من المؤشرات الدالة على انتماء "القلعة الثامنة" وغيرها من النصوص إلى ما يمكن تسميته بالقصيدة السير- ذاتية، فمن جهة هناك حضور ضمير الأنا السير- ذاتي المتحقق على مستوى النص (صاحبي، اسمي، عنوان بيتي، زرتهم في الظلام. ( ..علاوة على الترابط القائم بين النص الراهن ونصوص الشاعر السابقة أو اللاحقة، ضمن شبكة من العلاقات المتداخلة، بالإضافة إلى اعتماده في نصوص كثيرة على عنصر أساسي في السيرة الذاتية وهو السرد، الذي يصل القصيدة بفن القصة على مستوى تجسيد الشخصية، أو التصوير الخاطف للأحداث والمشاهد.

ولأن السيرة الذاتية تستدعي فعل التذكر الذي لا يعني فقط التفكير في شيء كان، بل في شيء آتٍ أيضاً كما يقول هيدغر Martin Heidegger، فإن علال الحجام يستهل المقطع الأخير من القصيدة بـ"لو" كأداة شرط غير جازمة تفيد التعليق في الماضي أو المستقبل، تعبيراً بليغاً عن حسرته على زمن مضى كالنهر بأوجاعه وذكرياته الأليمة التي لا تقبل التصحيح مع غياب الشرط المأمول، لكنها ممكنة الحدوث في الزمن الآتي.

لو تعود المياه إلى منبع النهر

لاعترفت بجحود اليباب

لو يعود الزمان إلى أصله

لاستوى جمرة

تتراقص أحرفها

متلألئة في كتاب

...

بهذا تنكشف بعض ملامح الكافكاوية في "قلعة " علال الحجام، حيث يبدو الإنسان/ الشاعر لا يتجاوز كونه متهماً بإنسانيته، يجاهد في الخروج من ثلج الاغتراب ودهاليز القوى الغامضة وسلطة الأنظمة، دون أن يقدر على تفادي الفشل والإحباط، ما يعزز إحساسه بالوحشة بكل معانيها المؤلمة... بالرغم من ذلك فإن الشاعر في المشهد الأخير من النص يفتح كوة للأمل ويفرد مساحات خضراء للانعتاق والحلم، حيث يقف بهويته المختلفة مودعاً "القلعة الثامنة" كصرح ناشئ من شطحات مخيلته، وربما أيضاً، كنظام منافق مشيد على أرض واقع موصوم بالإدانة.. يكشف القلعة ليبتعد عنها متحاشياً الوقوع تحت وطأتها الساحقة.

سلام .. سلام

على الغابة الساكنة

على حجر

على شجر

سلام على ربوة ودعتني بأحلى الكلام

سلام على الرمح والجرح

والثلج والعشب

والمئذنه

سلام على القلعة الثامنة

لقد أراد علال الحجام لقصيدته أن تظل منفتحة على احتمالات التلقي ولانهائية التأويل، لذلك حرص على توقيعها بضربات فرشاته الباذخة، هو الذي لا يملك من خيرات المعاني سوى الرموز.. وحسبي أني حركت غصناً صغيراً من أغصانها المثقلات بالثمار.


* في الساعة العاشقة مساء، الطبعة الأولى 2001، دار توبقال للنشر

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم