الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الطفلة التي تحدد مصيرها قبل ولادتها ...آربي " أصدقائي يذهبون إلى المدرسة وانا أذهب إلى المستشفى"

المصدر: "النهار"
ليلي جرجس
ليلي جرجس
الطفلة التي تحدد مصيرها قبل ولادتها ...آربي " أصدقائي يذهبون إلى المدرسة وانا أذهب إلى المستشفى"
الطفلة التي تحدد مصيرها قبل ولادتها ...آربي " أصدقائي يذهبون إلى المدرسة وانا أذهب إلى المستشفى"
A+ A-

كانت لا تزال صغيرة جداً على ذلك، لكن الحرب لم تكن تفرق بين كبير أو صغير، بين امرأة حامل ورجل عجوز. كانت الحرب قاسية عليهم جمعيهم، ومن بينهم هذا الجنين الذي كان ينمو في أحشاء والدته دون ان يعرف بشاعة ما ينتظره في الخارج.

كانت "آربي" تلك الطفلة التي تحدد مصيرها قبل ولادتها نتيجة تعرض والدتها الحامل بها الى إشعاعات الصاروخ الذي سقط خلف منزلهم خلال الحرب العراقية- الإيرانية. صاروخ كان كفيلاً بقلب حياتهم رأساً على عقب، لحظات يصعب اختصارها بكلمات، كيف لأم ان تنسى تلك المشاهد، كيف لها ان تنسى يوم توجهت الى الطبيب مسرعة بعد الحادثة لتعرف آثار ومضاعفات هذه الإشعاعات على حياة طفلتها التي تنمو في أحشائها.

آربي اليوم لا تُشبه آربي الصغيرة، مشوار الألم واليأس والوجع جعلا منها انسانة قوية، صلبة وقدوة في حياة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. هذه الفجوات الصغيرة التي كانت تملأ حياتها الصغيرة وتجعلها حزينة، تحوّلت الى نقطة قوة تستند إليها لتمضي في تحقيق أحلامها. لم تتوقف آربي عند حدود جسمها المحدود، الذي خذلها في مرحلة الطفولة، بل قررت ان تقاتل حتى الرمق الأخير، وكما تقول دائماً "الحياة حلبة قتال وعلينا ان نقاتل دون استسلام".

تشوّه خلقي


فعلاً، نجحت آربي في معركتها مع مرضها المزمن الذي سرق حركتها وجعلها عاجزة، هي اليوم تستعيد فصول حياتها لتروي لنا قصتها على طريقتها. تبدأ من طفولتها بالقول " تعود آلامي ومعاناتي إلى ما قبل أكثر من 28 عاماً بسبب تجار الحروب والدم وتحديداً الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في عقد الثمانينات التي خلفت مئات ألوف الضحايا وكنتُ انا إحداهم".

تعرف آربي ان ما تعيشه اليوم لم يكن ذنبها، لم يكن اصلاً ذنب أحد. الصدمة الأولى وفق آربي "كانت اعتراف الطبيب لوالدتي بأن الجنين سيولد مشوهاً نتيجة الإشعاعات. هكذا وُلدتُ أعاني مرضاً مزمناً سبب لي تشوهاً خلقياً في المفاصل وصعوبة كبيرة في الحركة، لكن الأصعب من ذلك ان المرض يتفاقم مع مرور الوقت والتشوّهات تزدأد والخسائر الجسدية تتضاعف".

اولى الصفعات..."كيف لي أن أنسى؟"

مشاهد كثيرة طبعت بقساوتها ذاكرة آربي، تقول "كنتُ أعيش في عالم يعرف عن مرضي وحالتي، كنتُ الوحيدة التي كانت تجهل حقيقة وضعها الصحي، كان الجميع يعلم اني مريضة إلا أنا. كنتُ استغرب من تعامل أهلي وخوفهم الزائد عليّ الى ان بلغتُ سن السابعة تقريباً. في تلك المرحلة، كان عليّ ان أواجه حقيقة مرّة وبشعة، بدأ العام الدراسي ومعه ذهب جميع أصدقائي الى المدرسة في حين ذهبتُ انا الى المستشفى حيث كان عليّ ان أواجه مرضي هناك لأول مرة".

خضعت آربي لجراحة ، كان عليها ان تتعامل مع كل هذه التغييرات دفعة واحدة. حاولت عائلتها ان تشرح لها عن وضعها الصحي وحقيقة إعاقتها، لكنها لم تكن مستعدة بعد لسماع ذلك، كان صعباً عليها ان تتقبل ذلك بداية، كانت لا تزال طفلة تريد ان تعيش طفولتها كسائر الأطفال.

ليس سهلاً ان تستعيد فصول حياتها، شريط يمر امام عيونها، تتابع قصتها قائلة "أصبحت حياتي محصورة بين المستشفى والبيت، عشتُ اياماً صعبة جداً. حاولت استكمال حياتي وقررت متابعة دراستي تخرجت بدبلوم هندسة في الرسم المعماري وكنتُ الأولى على القسم. لكن الظروف الصعبة التي كان يرزخ تحتها البلد، دفعتنا الى السفر الى أوروبا. كنتُ احمل الأمل معي وكلي إيمان بأني سأتلقى العلاج وأضع حداً لإعاقتي. بدأت حالتي تسوء، وبعد إجراء الفحوصات كانت الصفعة التالية، لم يخف الطبيب سوء حالتي وقال لي "ستكونين انسانة عاجزة عن الحركة تماماً وحالتك الصحية سيئة جداً".

"ليه يا الله؟"


تصف آربي تلك اللحظة بالقول" لم أكن أتوقع سماع ذلك، شعرتُ ان كل شيء انتهى، وبدأت ألوم الله "انت ليش خلقتني". رأيتُ احلامي تموت امام عينيّ، كيف لي ان أحققها بعد اليوم وانا انسانة عاجزة تماماً. من المستشفى الى المنزل كانت محطتي الوحيدة واليومية في حياتي. كنتُ محطمة ويائسة الى ان التقيتُ بفتاة صغيرة في المستشفى. هناك تحوّلت حياتي 180 درجة".

طلبت والدة الطفلة من آربي التحدث معها لتُشجعها على متابعة العلاج. وفعلاً هذا ما حصل. لا تتذكر آربي من أين حصلت على تلك القوة. بالنسبة لوالدة الطفلة "كان همي الوحيد ان لا تيأس وان تهزم مرضها بأي ثمن. لم أتوقع ان أقول كل ذلك، استغربت جداً من نفسي، انا الفتاة المحطمة كيف نجحتُ في إنفاذ تلك الفتاة من اليأس وانا غارقة به ومستسلمة إلى حدّ الموت؟! استعدتُ كلامي لها وشعرتُ اني بحاجة اليها. أحياناً ننصح الآخرين وننسى ان ننصح أنفسنا".

لا إعاقة عند الإرادة"


من تلك اللحظة بالذات، قررت آربي ان تغيّر حياتها وتطلب المساعدة والعلاج حتى تهزم المرض. من انسانة يائسة الى مغامرة، تشير آربي الى اني "حققتُ حلمي بالرغم من اعاقتي ونجحتُ في ممارسة اولى مغامراتي من خلال القفز من الطائرة بعد سنتين من التدريبات والتمارين. كما قمتُ بممارسة الغوص، لم يعدّ هناك من شيء يقف في وجهي، حتى إعاقتي حوّلتها الى مصدر قوتي وطاقتي".

خضعت آربي لدورات متنوعة في تنمية وتطوير الذات، أرادت ان تكون ناشطة انسانية لذوي الاحتياجات الخاصة، والأهم ان تكون لهم الأمل في حياتهم ومساعدتهم ودعمهم في طريقهم الصعبة. ولقد نجحت في تحقيق رسالتها لأنها أكثر شخص يعرف معاناتهم، هي مثلهم وستعلّمهم كيف يتخطون إعاقتهم بإصرار وأمل وحب وعزيمة.

تطمح آربي ان تصبح يوماً سفيرة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وتمثلهم في مختلف أنحاء العالم. تريد ان تكون ناطقة باسمهم لتنقل وجعهم وآمالهم وأحلامهم. تردد دائماً " العجز ليس ان تكون بلا قدم او يد بل ان تكون بلا هدف او غاية". رسالتي لهم " لا تستلموا مهما كانت ظروفكم صعبة، وتذكروا دائماً ان الحياة مثل الحلبة عليك ان تٌقاتل بإيمان وإرادة وثقة حتى تحقق نفسك".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم