الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

شعرية الأثر في ديوان "ولادة متأخرة" لعبد الرحيم جداية

المصدر: "النهار"
أحمد الشيخاوي
شعرية الأثر في ديوان "ولادة متأخرة" لعبد الرحيم جداية
شعرية الأثر في ديوان "ولادة متأخرة" لعبد الرحيم جداية
A+ A-

في كتابة المعنى المنبثق مما يمكن أن يشي به البياض، وتولده لغته بحيث لا وجود للذات ولا تراتيل لأصدائها سوى خارج النص، وفي كواليس ما تبنيه فلسفة الأثر، يختزل جملة من المعاني الجديدة، وإن في معماريته الكلاسيكية، أجدد إصدارات الشاعر الأردني عبد الرحيم جداية، ديوان "ولادة متأخرة" الصادر عن مكتبة الطلبة الجامعية- الأردن: "إربد"، جملة من المعاني المركبة، والتي تسبح في فلك تيمة أو ضمنية لامّة، تفيدها رمزية (ليلى) وما ترشق به المتخيل العربي من دوالٍ تجيّش ذاكرة الملاحم والحضارة والأمجاد، محنّطة بازدهار الأدب والفلسفة والفكر والفن.

من هنا تجيء قيمة هذا المنجز، انبثاقا من هذا السؤال الأبدي، راجحا بحمولته التي تتشابك داخل حدودها، خيوط الجمالي والعرفاني، وهي تمارس على المتلقّي لعبة كلامية تصون لها جاذبيتها ورونقها، الأقنعة العروضية، في المجمل، على نحو يزلزل القناعات والثوابت بخصوص المنظومة المفاهيمية الهوياتية العربية بدرجة أولى.

ولعلّ ما ذهبنا إليه في هذه الفذلكة، له تفسير وتأويل نهتدي إليه من إهداء الديوان القائل "بحيرة قبلية ممهّدة لولادة النص"، بحيث تأخذ مخيلة الشاعر بإفرازات من الخواطر والأحكام الافتراضية، ضمن إحالة على اليأس المسبق من الكتابة الشعرية، والتشكيك المرافق في غائيتها وجدواها.

هي سفسطة الخيارات المعلقة، إذن... لا كتابة من الأساس، أو كتابة ناقصة، أو كتابة لا منتمية، أو كتابة مصيرها رفوف النسيان، أو كتابة ينتظرها الحرق، وكلها إكراهات لا خيارات، لا تسمن عن قصة الإجحاف بحقّ الشعر والشعراء، هؤلاء الذين يرحلون بلا تكريم وتتويج سخي ينصفهم، أو في النادر من الأحيان، تأتي فصول الاحتفاء بهم متأخرة جدا.

عموما، يمكننا تقسيم الديوان الواقع في 196 صفحة من القطع المتوسط، والمتضمّن 41 مطوّلة تنتمي إلى الكتابة الخليلة في معظمها، ويمكن تبويبها في أفق الاعتبارات الموالية:

إبداع الأمومة

كونها، أي الأمومة، نواة كلّ كائن وما يتركه سؤال الوعي بالواقع الموجع لدى المبدع الملتزم بتجريبية أجناسية متعبة، وسرعان ما تشعل في كنهه حنين العودة إلى رحاب الموزون والمقفّى.

الأم هي المباركة لكل هذه السندبادية والمغامرة المجنونة، المحفوفة بالمخاطر والعذابات، وهي والجة في تشكيل ملامح مثل هذه الفسيفساء الوجودية الرافلة بفلتات الانتماء.

وهنا نشير إلى نفي لم يولد من فراغ، يقصف هوية أمّة بأكملها، مختزلة المعاني في رمزية ليلى بالطبع، يقول عبد الرحيم جداية:

[ لا لستِ ليلى حينَ الذئبُ طاردها

إنّي النسيُّ ولكن أذكر السّلّـــــــــــــــــــةْ

ليستْ من الإنسِ لـــــــــــــــكنَّ الهوى بللٌ

تدنو إلى رئتي في لذّة البلَّــــــــــــــــــــــــــــةْ

تدنو تُشاطرني في الليلِ قُبلتَهــــــــــــــــــــــــــــــا

منْ ذا يُشاطرُ في أحضانها الفلّةْ

فالقلبُ ينبض تبريحاً لعاشقِــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

والثّغرُ ينحتُ في تكوينها القُبْلةْ

فالثغرُ أرصُدهُ لحناً بقافيتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

والوردُ يشفعُ إن خانتهمُ النّحلةْ ](1).

الأمومة هي المصدر، هي البذرة وكلّ ما يتفرّع عنها، يخلد في انجذاب وحاجة إليها، وكل ما سواها هو أوهام، غير مجد وجودها من عدمه، وهي غالبا ما تولد متأخرة، على حدّ تعبير شاعرنا، لا لشيء، إلاّ لتعذّبنا بجمرات وعينا المتقّد، ونحن كشعراء، نوغل خطوة خطوة، في مسافات أقصى ما تكون من الوهم، نسلك جيوبها الموجعة، انتحاراً بالحرف والكلمة، نمضي من دون رجعة.

خطاب القضايا العروبية الكبرى

كثيرة هي نصوص المجموعة التي تأخذ هذا المنحى وتشقّ الطريق نحو مستوى التقعيد لثقافة أعمق في مقاربة العديد من القضايا العربية المصيرية، فتوبّخ راهن السلبية والتقاعس والتطبيع الذي يحاصر نظير هذه قضايا حسّاسة جدا، وأكثر تعقيدا وتركيبية.

تسهم برؤى نيّرة، مقترحة بعض الحلول، بدل الاكتفاء بالتشخيصات والتنظيرات العقيمة، كضرب من مضيعة للجهد والوقت.

تحاول استثارة الضمير العربي، عبر خطاب حماسي تحريضي ليس بالمعنى القدحي، بالتالي نشر أفكار أشدّ لحمة بدوائر الانتماءات الإنسانية، وتجديفا وفق تيارات الحقّ المشروع، مقعّدة، انتهاء بفلسفة شعرية تراعي جدليات كثيرة، كالثابت والمتغير، الحق والواجب، مع وضع خطوط حمراء وعريضة تحت مفاهيم الخلط، وإلى أي حدّ اربكت حسابات الشعوب العربية وأسهمت في طمس ملامح هويتها، واغتصاب مقدّساتها.

هاجس الانتماء

كأي شاعر، يناضل عبد الرحيم جداية، تحت راية هذا الفن التعبيري المتّهم بعبثيته إزاء ما يفرضه عالم السياسة والإيديولوجيات المتعصّبة لأنها عربدت في العقل البشري وخدّرته، ويعاند قدراً جار على الهوية الإنسانية في مفهوم اشتراكي، مستجلباً طقوس التكامل والتعدّد والامتداد، ناقلا إياها إلى خندق المفاضلات والنفعية الأنانيات والمصالح الضيقة، ما نتج عنه اختلالا كونيا رهيبا يؤذن بمستقبل دام وأكثر فوضوية وحروبا ودمار.

والشاعر مهما تسربل بنبوءته وازدان بديباجتها، يجدر ألاّ تُنتظر منه صنوف المعجزات، وهو في أقصى مآربه شخص هشّ نابض بالحس المرهف والجمال، وسْط زحمة الأسئلة الوجودية والهوياتية والفلسفية والصوفية، يشاكس قدر المستطاع إسمنتية لحظته، وبمعنى أدق، يحاول الحفاظ على منسوب إنسانية في غمرة هذه المزايدات اللعينة والمساومات المقيتة التي غرّبت الروح فوق الطاقة، وجنت على القيم والنوع البشري، كأنها تعجّل بتاريخ انقراضه.

إنه أجمل ما يمكن أن يثرثر به قلب شاعر، يهمس موبّخا هذا العالم المتخم بأوبئته، كأنما يدلنا على هوية وشعرية الأفول، مثلما يصوغها أثر القصيدة، لا أكثر. وهو صلب الرسالة التي أراد لها الشاعر الأردني عبد الرحيم جداية أن تلوّن ذائقتنا وتستقرّ بمعانيها في وعينا.

هامش:

(1)من قصيدة لا لست ليلى (ص)134

ولادة متأخرة(شعر) لعبد الرحيم جداية،طبعة2018منشورات مكتبة الطلبة الجامعية/الأردن: إربد.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم