الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

غريبة لبنانية يوم الاستقلال في باريس

المصدر: "النهار"
باريس – كاتيا الطويل
غريبة لبنانية يوم الاستقلال في باريس
غريبة لبنانية يوم الاستقلال في باريس
A+ A-

تستيقظين صباحًا وتنظرين مباشرة إلى هاتفكِ قبل أن تفتحي عينيكِ. وسيلة لقائكِ الوحيدة بشمس بيروت البعيدة. إنّه تقليدكِ الخاصّ عندما تستيقظين في باريس.

تحملين هاتفكِ كالعادة وتخفّفين من حدّة وهج شاشته. تطفئين المنبّه ثمّ تنظرين إلى رسائلكِ على الواتساب. تراقبين أصدقاءكِ وصورهم على الفايسبوك بصمت. من بعيد كلّ شيء يبدو بهيًّا وجميلاً. تبتسمين. تتابعين الأخبار بخوف وتوجّس.

الخميس، الثاني والعشرون من شهر تشرين الثاني. يوم عزيز عليكِ. تعلمين أنّه يوم عزيز عليكِ ويوم ذو أهمّيّة إنّما لا تعلمين لماذا تمامًا. تحاولين تذكّر السبب. هل هو عيد ميلاد أحد أصدقائكِ؟ عيد ميلاد شقيقكِ؟ تسألين صديقكِ المفضّل "غوغل" عمّا حصل في هذا اليوم. فيجيبك "غوغل" بلا تردّد.

22 تشرين الثاني 1890: ولادة القائد الفرنسيّ شارل ديغول.

لا. ليس هذا ما تتوقّعينه.

22 تشرين الثاني 1894: وفاة الكاتب البريطانيّ الرائع ألدوس هاكسلي.

تحبّين هاكسلي لكنّه ليس السبب خلف أرقكِ الضبابيّ هذا.

22 تشرين الثاني 1963: اغتيال الرئيس الأميركيّ الخامس والثلاثين جون ف. كينيدي.

جاكي وجون عزيزان. إنّما هناك أمر آخر. ذكرى تؤلم أمعاءكِ. شيء يتّقد في داخلكِ تعجزين عن فهم سرّه. رائحة بعيدة. ذكرى جميلة تعجزين عن الإمساك بها.

تبحثين أكثر بعد.

22 تشرين الثاني يوم مميّز لسبب آخر. تشعرين بشيء يحفّزكِ على البحث مجدّدًا وبشكل أعمق. تشعرين بفضولكِ يحثّكِ على الجلوس بشكل مستقيم لطرح السؤال بشكل أفضل. تسألين "غوغل" بطريقة أخرى عن يوم 22 تشرين الثاني. فلا يخيّب "غوغل" أملكِ.

22 تشرين الثاني 1943: عيد الاستقلال اللبنانيّ.

صحيح! اليوم هو اليوم الوطنيّ اللبنانيّ بامتياز. تتذكّرين هذا اليوم عندما كنتِ في المدرسة. عندما كنتِ في الجامعة. أنتِ اليوم في باريس ولا أحد يحتفل معكِ. لا أحد يتابع العرض العسكريّ أو يحيّي الجيش اللبنانيّ. لا أحد "ينقّ" على الوضع وعلى الفساد وعلى السياسيّين. لا أحد ينتظر كلمة الرئيس ليعلّق عليها مبجّلاً أو ساخرًا. لا أحد يتحدّث عن زيف الاستقلال ونفاقه. أنتِ في باريس ولا أحد يكترث بأنّ اليوم هو يوم إعلان بلادكِ بلادًا حرّة جميلة مستقلّة. أنتِ في باريس. لا أحد يعلم بشأن هذا اليوم الغالي. لا أحد هنا ليعيّدكِ بلبنانكِ.

تعلمين أنّ الوضع ليس مشجّعًا تمامًا. تعلمين أنّ الاستقلال معلّق في ظلّ أزمات بيئيّة وسياسيّة وطائفيّة واجتماعيّة مُقلقة. تعلمين أنّه لا يمكنكِ أن تتحدّثي عن الاستقلال من دون أن تشعري بالحسرة وبألم الفراق. لكنّكِ تفكّرين في لبنان وتقرّرين أنّكِ ستعيّدينه. تفكّرين بصديقكِ المشرّد إلى جانبكِ وتقرّرين أنّكِ ستعيّدينه. كلاكما جاران في هذه البلاد التي لا تضحك لـ"الكرواسان السخن".

تخرجين من سريركِ وتُخرجين لبنان من مخبئه الصغير في بيتكِ وتضعينه أمامكِ و"تعزمينه" على كريب لذيذة لتعيّديه. تحملين جواز السفر المرتعش بين أصابعكِ النعسة وتضعينه على الطاولة أمامكِ وتتحدّثين إليه كما تتحدّثين مع أيّ صديق قديم.

تعيّدين لبنان بعيده وتفرحين لأنّكِ لبنانيّة. تعيّدين لبنان لأنّكِ تتحدّثين الفرنسيّة بأناقة والإنكليزيّة بطلاقة. تعيّدين لبنان لأنّكِ تتمتّعين برقيّ اجتماعيّ وقدرة عظيمة على اجتذاب الناس ونيل احترامهم والمحافظة على صداقاتهم. تعيّدين لبنان لأنّكِ تتمتّعين بأناقة متألّقة وقدرة على المحافظة على جمالكِ وأنوثتكِ حتّى في أحلك الظروف. تعيّدين لبنان لأنّكِ فريدة من نوعكِ، تلفتين الانتباه أينما حللتِ بشخصيّتكِ الدافئة وثقتكِ المتوهّجة بنفسكِ وبالآخرين. تعيّدين لبنان لأنّه منحكِ عذوبة الشمس وانسياب المتوسّط وشموخ الجبال. تعيّدين لبنان لأنّكِ تبتسمين في كلّ مرّة تخبرين فيها أحدًا أنّكِ لبنانيّة. تعيّدين لبنان لأنّكِ تفرحين في كلّ مرّة يلمع فيها نجم أحد اللبنانيّين حولكِ. تعيّدين لبنان لأنّ العرب جميعهم يحسدونكِ عليه. العرب جميعهم يعشقونه، يغارون من نسائه ويتوقون ليسمعوا كلمة غزل رقيقة من رجاله. تعيّدين لبنان لأنّكِ فخورة بالأرزة الخجول التي على جواز سفركِ. هذه الصديقة التي تتعب معكِ لتنال الفيزا. هذه الغالية التي تنظرين إليها وتتنهّدان معًا وأنتما واقفتان في الصفّ الطويل في المطار: الصفّ المخصّص لأولئك الذين لا يحملون جواز سفر أوروبّيّا أريستوقراطيّا.

تُخرجين لبنان الصغير من مخبئه في باريس الباردة وترتشفين قهوتكِ معه بهدوء. تخبرينه بفخركِ العظيم. تعيّدينه بابتسامة هادئة. لن تلوميه. ما دخله بالفساد والحكومة المغيّبة؟ ما دخله بالنفايات والمجارير والطرق؟ ما دخله باللاجئين والمخطوفين والمهجّرين وكلّ الذين قست عليهم الدنيا؟ ما دخله بالطبقة الحاكمة والطبقة التابعة والطبقات المعذّبة ما بينهما؟

تعيّدين لبنان لأنّكِ تثقين به. لأنّكِ تتوقين إلى يوم اللقاء. لأنّكِ تشتاقين إلى بيروت وزحمتها وطيشها وضحكتها ورعونتها ولامبالاتها. تعيّدينه لأنّكِ فخورة بعراقته، بفنّه، بمسرحه، بأدبه، بكتّابه، بصحافيّيه، بممثّليه، بفنّانيه، بلغاته، بأهله، بمسيحيّيه، بمسلميه، بلياليه، بأهله، بصمودهم، بجبروتهم. تعيّدين لبنان وتحثّينه على احتمال المصائب، فأنتِ الأخرى تعانين الأمرّين في بلاد الإفرنج الرماديّة. تعيّدين لبنان وتستعطفينه. تطلبين منه السماح لرحيلكِ المفاجئ هذا. أنتِ لم تغدري به. لم تخونيه. ستعودين. تخشين العودة وتخشين البقاء وهو جالس أمامكِ في انتظار الردّ. فتطلبين المزيد من الوقت: "صبر جميل فكلانا مُبتلى!"

تُخرجين لبنان وتعيّدينه. صديقكِ الوحيد في هذه البلاد التي ستبقيكِ دومًا منتظرة في الصفّ لتدخليها. تجلسين قبالة الأرزة المذهّبة على الغلاف الكحليّ الأنيق. تجدينها تبتسم لكِ. هي الأخرى تعيّدك. تمسك بيدكِ وتشدّ أزركِ: أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا! تعالي أقاسمك الهموم تعالي!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم