الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

جورج شكرالله في أدب الغرابة

المصدر: "النهار"
أحمد الشيخاوي
جورج شكرالله في أدب الغرابة
جورج شكرالله في أدب الغرابة
A+ A-


وجب أن يُرْشم النّص بمحطات غرائبية، ترفع عنه كلفة النمطي والمألوف، وترتقي به رفوف السّحر المتجلية فيه آمال وآلام الكائن، كأقصى ما تكون شطحات الخيال، إذ بها يتحقّق الطيران الحرّ والعنفوان الإبداعي المشدود إلى واقعية المعالجات.

بمعية الكاتب اللبناني #جورج_شكرالله، يعيش المتلقّي غطرسة النّص العجائبي المطلي بعصارة الانتماء، بما يفجّر أسئلة وجودية وفلسفية منبثقة من خلفيات السّليقة، مثقلة بقطوف سخاء البصيرة ووجودها اللامحدود، في أفق كتابة العماء وألوانه المنجدة من حقول ألغام الصّنعة المقزّزة والتكلّف المجامل.

نقتبس له ههنا بعض البوح، إذ يقول مذبذباً بين خطي تواز للخطاب السردي والشعري، راشقاً الذائقة والوعي، بوابل من التصويرات الفنية، تماما كما عوّدنا مؤكّداً فرادته وخصوصية بصمته، غير مهادن في إرباك مريديه وعشاق سيره الأعمى في كلمته التي يتشاطره عبرها معنيان: صياغة شفيفة تجعل من المألوف غرائبياً تحصل به الوظيفة الأسمى من الممارسة الإبداعية، وأخرى قيمية، دورها أن تزرع المثل وتستجيش مكامن النبل والجمال والغضاضة في المنوّم والمخدّر، داخل مركزية إنسانيتنا النازفة.

يقول في موضع:[ أيّ أصابع جرداء، سحبتهُ من شعره جهةَ مغاور السّفر الأعمى، وطمستْ مقلتيه بأحجية البعد الأبكم،و كبّلتْ يديه ورجليه، بشعر امرأة عاهر، تمشي أمام قافلة خطاياها، حادية؟.

أي أصوات خرساء أومأت له أن يقتربَ. وبعد أن وأدت خرير السواقي الشجي في حنجرته، جرّته إلى زاوية الصمت اليابس، وأجهضت على صبايا الأمل والفرح والشباب في صدره؟.'](1).

هو بوْن يشسع، بيننا وبين تلك الرموز التي تقبرها الذاكرة، عوضاً عن أن تنفخ في شموع ميلادها، وفقاً لسياقات مواكبة ومسايرة للتقدم والتطوّر الحضاري البشري الملحوظ.

مؤلفه هذا وهو يحوي بين دفّتيه رسالتين إنسانيتين ساميتين، لكن ليس على حساب الوظيفة الجمالية للإبداع، إجمالاً.

ذات تتقاذفها هواجس الوطن، وتنحاز كلياً للقضايا الإنسانية العادلة، تبعاً لدورة وجودية كاملة ومتوازنة، تصون ميكانيزمات التصالح في شموليته، وترعاه بثلج الأنامل المتوهجة، ومحراث الخيال المخصّب.

"رقصة في العواصف" كما سمّاها هو، نكاية في راهن الفوضى والدموية والاضطرابات وجنائزية المعنى والمشهد، بيد أن كلّ ذلك يتمّ، توسّلاً بسبل سرية، تشقّها ذهنية الكاتب، في روح إنسان خبر جوْر الوطن والمنفى، على السواء، فإذا بعزلته تتضاعف ومعاناته، وإلاّ لم يكن ليحوز كامل هذه الطّاقة، كي يهدم ليبني ويفكّك ليركّب، مربكاً بأقنعة كتابة السهل الممتنع.

وفي موضع آخر، نقرأ له الاقتباس التالي: [ بلادي يا مدينةً من النّبيذ القرميديّ، يا غابةً مُلوّنةً بأجنحة العصافير، يا ينبوع مراكب زرق تحبو فوق مياه العالم.

بلادي إليكِ أنت تحيّةُ جبالْ...

*وطني غابةٌ خضراءُ قديمة. وطني بوّابةٌ أرزيةٌ صلبة. إذا عبرتَ بين غاباته يومًا، لأدركتَ لماذا يلذُّ لبنيه خمر الفداء. لأدركتَ أيضا لماذا قفز إليه الفجر من السّماءْ.'] (2) .

تفيض الرّسالة الثانية في جزء "قمر الزمن والليل" عن كينونة تربي حسّ الانتماء، داخل دواليب المشترك الإنساني، بمعزل عن فوارق الطبقية والأعراق واللون والألسن والدين.

نحن نعرف أن القمر لا ينير إلاّ ليلاً، فما الغرض من إضافة مفردة "الليل" إذا؟ بقليل من التأمل نهتدي إلى حكمة أراد أن يبطّن بها جورج شكرالله رسالته، واشياً بحقيقة جوهرية، وهو أقصى معنى يمكن أن يُستفاد من شرف الإضافة.

في موقف ثالث يقول: [ إستفيقي يا حلوتي الصّغيرة .. الليل ليس على الجبال، ليس في الأودية.

الفجرُ يندرئُ أنهاراً من الفضّة. النور يتعمشق على أنهار الصنوبر، والشمس عروس الفضاء العظيمةُ، مثل برتقالة بيضاء .. بيضاءَ تتدلّى من يد الله.] (3).

هكذا يدع الكاتب، بعدّه كائناً ليلياً، ههنا في حالة جورج شكرالله، ليس يسطع إلاّ لتومض من خلاله وعبره، زوايا العتمة في الكتابة والحياة، أو بمعنى أدقّ يورّث رسالة مشرعة على تفاصيلها ووصاياها وحكمها الثمينة، محاولاً تجنيب الخلف، دوخة المركب، علماً أن متاهات الذات والحياة لا حصر لها، وأخطرها ما نُقش في ذاكرة طفولة الكائن، لينغّص عليه، لاحقاً، أفق الأحجية كما يريدها مبدع أثيري وأصيل، من طينة اللبناني جورج شكرالله.

خبرة بالحياة، تسمو بالفعل الإبداعي مراتب، ليس يضاهيها سوى ما يدغدغ الذائقة والإدراك سيان، من ثمالة ملء كنوز ماورائيات ألوان النّص المفتوح تماماً، وهو يرشقنا بنورانية متونه، ويلقّننا دروساً جمّة، من جملة معانيها أنها تمجد الأصوات المغرّدة خارج السرب، والمنتصرة لإبداع الغرابة معجوناً بعصارة أحاسيس الانتماء والهوية ومنظومة ما يرفد في العمق والصميم الإنساني.

هكذا نجد جورج شكرالله وقد أفلح، في كلّ ذلك، صورة ورؤى وإيقاعاً ولغة، لينقل لنا من ضمن ما ينقل، إخلاصه للغصن، لبنان، وقد ضرب لها معادلاً موضوعياً، فأسقط عليها ممّا يؤنسن الجبل، ويمنحه طابع المقاومة والصلابة والشموخ، منقوعة في فروسية أبناء هذا الوطن المفخرة.

إحالات:

(1) نص كان قنديلاً (ص) 124.

(2) نص نجوم من الوطن (ص) 11.

(3) نص حب فوق الجبال (ص) 88.

انظر كتاب "رقصة في العواصف وقمر الزمان والليل" 2018، مطابع معوشي وزكريا

شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم