الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ولادةُ شاعر بين رؤية عبدالدائم السلامي وأنامل شربل داغر

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
ولادةُ شاعر بين رؤية عبدالدائم السلامي وأنامل شربل داغر
ولادةُ شاعر بين رؤية عبدالدائم السلامي وأنامل شربل داغر
A+ A-

لقد تحوّل العالم – كما بات معروفًا، ووفق التعبير الرائج في عصرنا - إلى قرية صغيرة، فصار بإمكان كلّ فرد أن يطلّ عليه من نافذته الخاصّة، ليأخذَ منه ويعطيه ما يشاء من كتابات وصوَر، بحيث أصبح كلّ شيء مباحًا ومعلنًا على كوكبنا، كما في نفوس قاطنيه؛ ما يضعُنا أمام مشهديّةٍ تكاد تكون نفسَها في كلّ القطاعات والمجالات والعلوم، إذ ضاق العالم بالأخبار والمعلومات والمراجع والكتابات والآراء والعارفين ومدّعي المعرفة... وفي مجال الشعر، انهالت علينا النصوص من كلّ حدب وصوب، بعدما انتشر "الشعراء" انتشار الطفيليّات على جذوع الأشجار الباسقة الوارفة الظلال، يتغذّون من رطوبة محيطها... تكاثروا إلى حدّ أنّنا ما عدنا نجد الوقت الكافي لقراءة كلّ ما يُعرض علينا، أو القيام بغربلته لنميّز من يستحقّ لقب "شاعر" ممّن هو دخيل.

فمن هو الشاعر الحقّ؟ من هو صاحبُ القامة الشعريّة التي تلوذ إليها القلوب لتنعم بنسماتها المحيية وعطرِ قصائدها المنعش للروح؟ هل يمكننا اعتبار كلِّ كاتبِ نصٍّ موزون (قائم على أسسِ علم العروض كما سنّها الخليل بن أحمد الفراهيدي، بعدما ضبط أوزان التفعيلات ضمن خمسة عشر بحرًا شعريًّا)، من دون غيره من الأنماط الشعريّة – بحسب رأي كثيرين-، شاعرًا حقيقيًّا، وإن تصنّع الزخرفة والتنميق مقدّمًا المبنى على المعنى؟

ولكن، ألم يسمَّ شعرًا أيضًا ما كتبه أنسي الحاج – على سبيل المثال لا الحصر - من قصائد نثريّة تحلّق في سماء جديدة، بعيدًا عن البحور الشعريّة، حتّى أنّه صُنِّف من أهم شعراء القصيدة النثريّة في العالم العربي؟! هنا يحضرني قول للباحث التونسيّ عبدالدائم السلامي، الذي يرى أن الشعر سجين في حيّز التكرار، "أي: في حيّز الصَّنْعةِ (تدوير المألوف) وليس في حيّز الخَلْق"، إذ راج القول – يتابع السلامي- أن الشاعر ملزم "أن يحفظ شعرَ مَن تقدَّمه، وينساه، ثم يقول شعرَه هو". ويدفعه هذا الرأي إلى التساؤل: "على ماذا اتّكأ صاحبُ أوّل قصيدة شعريّة في اللّغة العربيّة مثلاً...؟" منتهيًا إلى الاستنتاج: "إنّ في هذا السؤال إيحاءً ضمنيًّا بوجودِ شيءٍ غير شعريّ يجعل المرءَ شاعرًا قبل قولِه الشِّعرَ."

"شيء غير شعريّ يجعل المرءَ شاعرًا". تُرى كيف تُعرّف المعاجم كلمة "شاعر"؟ في "لسان العرب"، يطالعنا قول الأَزهري حول معنى الشعر الذي يحدّد من خلاله معنى كلمة "شاعر": ""الشِّعْرُ القَرِيضُ المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أَشعارٌ، وقائلُه شاعِرٌ لأَنه يَشْعُرُ ما لا يَشْعُرُ غيره أَي يعلم... وقيل: شَعَرَ قال الشعر، وشَعُرَ أَجاد الشِّعْرَ." وفي معجم "الصّحاح في اللغة"، نقع على تعريف الأخفش، الذي يقول: ""الشاعِرُ صاحب شِعْر. وسمِّي شاعِراً لفِطْنته." أمّا "المنجد في اللغة والأعلام"، فيفسّره بتعريفٍ مقتضب: ""الشاعر ج شُعَراء م شاعِرة ج شَوَاعِر وشاعِرات: "قائل الشعر". فهل يكفي ما سبق ليدلّنا، في خضمّ فورة الشعراء في عصرنا، على الشاعر الحقيقيّ؟ ألا يستحقّ الشاعر أن نعرّفَ به تعريفًا دقيقًا يليق بمقامه ويعكس صورته الفعليّة؟

يقول الشاعر اللبناني شربل داغر: "إنّ كتابة القصيدة – وإن لم تصدر عن حالة حبّ – هي حالة حبّ في حدّ ذاتها: حالة حبٍّ للّغة نفسها، لما يتشكّل منها، على طرف أصابعي، على أنّه منّي ومن غيري في الوقت عينه." لنتأمّل قليلا في ما قاله داغر: "حالة حب للّغة نفسها، لما يتشكّل منها، على طرف أصابعي"! لكأنّ نسيمًا معطّرًا بالشاعريّة، يفوح من طيّات هذه الجملة، ويداعب أنفاسَنا. هذا هو فعل الحب! يضعنا داغر أمام فعل ولادة حقيقيّ؛ نرى بنات أفكاره تخرج من أطراف أصابعه لتولد على الورقة! هي لغته وهويّته، هو أسلوبه المعجون بماء فكره، يشي بأنّنا أمام شاعر! أليس هذا ما قصده عبدالدائم السلامي بقوله أنّ "شاعريّة الشاعر أسبقُ وجودًا من شعرِه"؟ مرجّحًا "وجود شيءٍ غير شعريّ يجعل المرءَ شاعرًا قبل قولِه الشِّعرَ".

من هنا نطرح السؤال: ما الذي يشحن الفكرَ أو يزوّدُه بالطاقة ليبدعَ ويعطي هذا الجمال في التعبير، أو هذا الأسلوب الشعريّ؟ إذا ما رمنا معالجة الموضوع بشكل موضوعيّ، علينا البحث في إطار كيان هذا الفرد، هذا الانسان، في ما يتفاعل ضمنه ليُنتج ما يُنتجه من كتابات. سبق وقلت: إنّ كلمات الشاعر المبدع هي لغته وهويته، ينكّهها أسلوبه المعجون بماء فكره. ولكن لا بدّ من خميرة تُنضج هذا الفكر وتمنحه هذا الجمال الأخّاذ؛ ويُفترض أن تكون هذه الخميرة من طبيعته - من دون أن نضطرّ للبحث بعيدًا-، بحيث تتداخل فيه بانسجام كلّيّ.

الإنسان جسد وروح، جسد أهمّ ما فيه الرأس والقلب، وروح أنبل ما فيها الفكر والإحساس. الفكر يسود على الرأس، والرأس يخضع للإحساس المسيطر على القلب. حين ينتابنا شعور بالخوف مثلا، يضطرب قلبُنا، فيرسل الأمر إلى رأسنا الذي يسوّلُ لفكرنا الهرب؛ وحين يجتاحنا الشعور بالحب، يتحكّم بقلبنا الذي يسيطر على فكرنا فيتغنّى بالحبيب لاستمالته... إذًا، هو زاوج ما بين الفكر والشعور، الفكر الذي يختزن الكلمات، والشعور الذي يموج بالعواطف. وبهذا، كلّما التقى الإحساس مع الكلمة، وُلد من عناقهما شعرٌ بديع! ويكون صاحب هذا الفكر وهذا الإحساس هو الشاعر.

ولكن، أن يكون فيك فكرُ وإحساسُ شاعر، بكلّ ما للكلمة من معنى، فأمر يعود إلى الذي قال للأرض كوني فكانت. فإن شاءك الخالق أن تكون شاعرًا، يستلُّ شهابًا من شعلة حبّه، ويسدّده إلى كيانك وأنت في طور التكوّن، فيغمرك قلبًا وفكرًا؛ ثمّ يصطفي الكلمة لتكون صولجانَك، تلامس بها، كالعصا السحريّة، قلبَ قارئك، فيغدو شعرك لسانَ حاله، "على أنّه منّي ومن غيري في الوقت عينه" (وفق تعبير داغر). وكلّما أثمر هذا الحبَّ، أو فِعْلُ الحبِّ، ما بينك وبين الكلمة، في قلب قارئك، أعلن الكونُ ولادة شاعر عظيم!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم