السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مارتشيللو فونتي الفائز بجائزة التمثيل في كانّ يعيش داخل صالة سينما

المصدر: "النهار"
مارتشيللو فونتي الفائز بجائزة التمثيل في كانّ يعيش داخل صالة سينما
مارتشيللو فونتي الفائز بجائزة التمثيل في كانّ يعيش داخل صالة سينما
A+ A-

بعد أقل من خمسة أشهر على نيله جائزة التمثيل في كانّ عن دوره في "دوغمان" لماتيو غاروني، حضر الممثّل الإيطالي مارتشيللو فونتي إلى مهرجان الجونة للمشاركة في دورته الثانية (٢٠ - ٢٨ أيلول).

رأيته في أروقة مقرّ المهرجان غير مرة. يجلس ليتصفّح مطبوعة، أو يلتقط صوراً مع بعض المشاهدين الذين تعرفوا إليه، بعدما شاهدوا "دوغمان" وانبهروا بأدائه الذي تقفز براعته إلى العينين، دونما حاجة إلى الكثير من الفهم بأصول التمثيل ومعرفة بأسراره. عندما لم يكن يفعل لا هذا ولا ذاك، يذهب للغطس في أعماق البحر الأحمر. سمعته يقول جملة شعرية: "كلّ يوم أجد سبباً لأكون سعيداً".

كانت ترافقه سيدة ثلاثينية تصف نفسها بمديرة أعماله. شقراء جذابة لا يتوقف فونتي عن مناكفتها وممازحتها عندما جلستُ معه لإجراء لقاء سريع وتلمّس شعوره وهو يحطّ في بلد عربي للمرة الأولى. قالت لي انها تعرفه منذ عشر سنين، وكان هذا واضحاً من نسق الحوار الذي يدور بينهما، والثقة التي جعلتها تردّ مرتين أو ثلاثاً نيابةً عنه. "عانت"السيدة وهي تتلقف منه كلماته الإيطالية لتعود وتضعها في تصرفي بإنكليزية ذات لكنة إيطالية غليظة. بدا لي ان فونتي لا يهوى الكلام، احساس عاد وأكّده بلسانه. فهذا الأربعيني الذي يمتلك شكلاً لافتاً على نسق باستر كيتون، ميّال إلى التكثيف، وهو المدرسة التمثيلية التي ينهل منها للاضطلاع بدوره في الفيلم.



"دوغمان" الفيلم التاسع للمخرج الإيطالي ماتيو غاروني، أحد المعتادين على تسلّق سلالم كانّ الحمراء وجوائزها. في جديده الذي أرسلته إيطاليا ليمثّلها في حفل الـ"أوسكار" المقبل (فئة أفضل فيلم أجنبي)، يعمل مارتشيللو (فونتي) ممرضاً للكلاب. هو شخص محبوب في محطيه، الا ان خروج صديقه المشاغب والمدمن سيمونتشينو من السجن سيغيّر كلّ شيء في حياته، وصولاً إلى دفعه في اتجاه العنف والجريمة. من عملية اذلال إلى أخرى، يتعلّم مارتشيللو كيف يتخلى عن طيبته ويضع مبادئه جانباً. هذه هي باختصار حكاية الفيلم الذي نال استحساناً نقدياً لدى عرضه في كانّ، وكذلك عندما خرج في الصالات الإيطالية. "الفيلم استُقبل جيداً، لأن الشخصية هنا رجل عادي كغيره من الرجال، وهو يأتي برسالة مفادها ان نثق بالحياة وان نطارد حلماً قد يتحقق"، يوضح الرجل النحيل الخجول الذي يجلس أمامي منتظراً أسئلتي.

"هل كانت السينما حلمك منذ الصغر؟"، سألته وأنا أنظر في عينيه الذابلتين اللتين ما لبثتا ان ذكّرتاني بآخر مشهد في الفيلم. "لا، في طفولتي كنت أحلم بالعزف في فرقة. وهذا الحلم حققته، فأصبحت عازفاً. أنا أتحدر من بيئة متواضعة في إقليم كالابريا. عشتُ طفولتي في كوخ. لكنها كانت طفولة سعيدة جداً. وهذا بسبب العائلة، وخصوصاً والدي الذي كان رجلاً مبهجاً. من دون أي مال، استطاع تأسيس بيت، ومنحنا كلّ شيء نحتاج اليه. كان يعرف قيمة الأشياء".بدأ فونتي كومبارساً في "عصابات نيويورك" لمارتن سكورسيزي الذي صوَّر في تشينيتشيتا في العام ٢٠٠٠. يتذكّر: "كان دوري صغيراً. كنت كومبارساً، لكن سكورسيزي اختارني أيضاً لأكون بديلاً لغاري لويس الذي كان يضطلع بدور ماك غلوين. كانت تجربة رائعة. صرتُ أمضي ساعات طويلة مع الممثلين، أتناول وإياهم الغداء، ومنهم ليوناردو دي كابريو ودانيال داي لويس وكاميرون دياز. كنت شاباً، آتي من كالابريا إلى روما للمرة الأولى في حياتي. لم أكن أعرف أي شيء عن السينما. فخرجتُ من المترو، وفجأة وجدتُ نفسي في استوديوات تشينيتشيتا، واكتشفتُ عالماً من زمن آخر. كان هذا أول تماس لي مع السينما".

طوال السنوات الـ١٨ التي تفصل احتكاكه الأول بالسينما وفوزه بواحدة من أرفع الجوائز في كانّ، ارتكب فونتي عدداً لا متناهياً من الأخطاء. يشدد على هذه الأخطاء أكثر من مرة خلال جلستنا، متأملاً تكرارها. فهي، بحسب قوله، المدرسة الأهم، علّمته كيف يحسن فعل الأشياء. "ليس من السهل ان تجد طريقك بسرعة. وهذا ينتج ارتكاب أخطاء. قمت بخيارات حمقاء. لكنها ساعدتني لأنضج".

صحيح ان فونتي يزور بلداً عربياً للمرة الأولى، ولكن سبق ان سافر كثيراً يوم أخرج فيلمه الروائي الطويل اليتيم، "طارت الحمير"، الذي تشارك الإخراج مع باولو تريبودي، وعُرض في مهرجان لوكارنو. يروي: "انها حكاية صبي يحلم بالعزف في فرقة موسيقية داخل قرية صغيرة. لكنه لا يملك الكثير من المال لتحقيق حلمه. الفيلم سيرة ذاتية. لم يكن إنجازه بتلك الصعوبة، لأن السيناريو كان قوياً. عندما قرأه المنتج، اتصّل بي فوراً. النصّ مزج المشاعر بالابتكار".

تعرف فونتي إلى غاروني من خلال كاستينغ. كان يعمل في فرقة مسرحية مع سجناء سابقين. مدير الكاستينغ الذي يعمل لدى غاروني كان جاء ليحضر مسرحية يمثّل فيها. فأعجبه ودعاه إلى لقاء غاروني. باهتمام ما، يروي كيف ان هذه الفرقة المسرحية وُلدت في ريبيبيا (ضاحية روما)، ومديرها ساعد السجناء لإعادة بناء حياتهم على الخشبة. يروي: "الفرقة كانت تتمرن في صالة سينما، وكوني أعيش في صالة سينما، تعرفتُ إلى أفرادها. ذات يوم خلال تمرين، توفى أحد الممثلين. كنت أصوّر كلّ شيء، ما جعلني أحفظ الأدوار. والمخرج طالب بانضمامي إلى الفرقة".

لم أستطع التحكّم برد فعلي: "مهلاً. ماذا قلت؟ تعيش في صالة سينما؟".

كانت مجرد جملة ذكرها فونتي كغيرها من الجمل، برتابة ومن دون ان يضيف اليها حتى لمسة دراماتيكية أو شاعرية، لكنها استوقفتني، فطلبتُ منه ان يكرر ما كنت قد سمعته جيداً، وأنا متأكد انني سأضعه عنواناً لمقالي عنه.

"نعم. أعيش في صالة سينما، مجازاً وحقّاً، منذ أربع سنوات. وقبل ذلك، كنت أعيش في صالة أخرى لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة. عشتُ في مسرح فالّيه، ثم في المسرح الثاني، نوفو سينما بالاتسو، الواقعة في سان لورنزو، الحيّ التاريخي. كانت صالة مهملة سطونا عليها مع بعض الأصدقاء”.

يرفض فونتي القول ان البقعة التي يأتي منها شبيهة بالمكان الذي نراه في الفيلم. "لا، ليس كبلدتي. مكان الفيلم يبدو أشبه بـ"لامكان". قد يكون أي مكان ولا يكون أي مكان". وبالتأكيد، لا أوافقه على ذلك. كغير إيطالي عاشق لإيطاليا ويعرفها جيداً، لا يمكن هذا المكان الا ان يحمل شيئاً من إيطاليا الهامشية البعيدة عن غلامور عصر النهضة حيث يمتّع السيّاح نظرهم. هناك روحية إيطالية معينة تحوم فوق المدينة، مصدرها الأساس تلك العلاقة بين البشر. أمام اصراري يوضح: "أجل، أجل، نحن في النهاية في إيطاليا. ولكن، كلّ شخص قد يجد في ذلك المكان شيئاً يعرفه ويرى فيه تجسيداً لهويته. هذا ما قصدته"."ولكن، كيف تتحضّر لدور كهذا؟". يشرح انه راقب الناس كثيراً. عاش تجارب متعددة. عمل أيضاً في متجر للكلاب وتعلّم كيف يقصّ شعرها ويصبغه. "ثم انني اعتنيتُ بكلاب مذ كنت طفلاً، وكانت علاقتي بها طيبة. وعموماً، علاقتي بكلّ الحيوانات جيدة. حتى السمك. اليوم، عندما غطستُ، تراءى لي وأنا في قعر البحر ان الأسماك تتأملني. احساس عجيب ان تراقبك الأسماك ككائن غريب يجتاح مملكتها. وبدا لي فجأة أنني أصبحتُ مادة للفضول من جانب هذه المخلوقات".

ضحكتْ المترجمة الشقراء، ثم بعدما وصلتني ترجمتها ضحكتُ بدوري، فألهمني هذا سؤالاً حول اذا كان يجد نفسه كوميدياناً، فاعترض: "طبعاً لا. أنا دراماتيكي جداً جداً". طلبتُ اليه الردّ بجدية، فلم يجد سوى القول: "لا يوجد ردّ جدّي في الحياة".

سألته اذا كان يوافق على نعت غاروني له بـ"باستر كيتون الجديد"؟ ردّ: "أين قرأتَ هذا؟ صحيح، أشبهه كثيراً وأحبّه. لكني مارتشيللو. باستر باستر ومارتشيللو مارتشيللو".ماذا عن جائزة كانّ؟ يدّعي فونتي انه لم يفكّر بها قط. "الأهم عندي كان إنجاز عمل جيد. لم أضيّع وقتي بالجوائز أو الشهرة أو المجد. صحيح ان الشهرة تتيح لك مجالاً أوسع لاختيار الأدوار، ولكن لن تعرف اذا كانوا يريدونك أو يريدون اسمك. الأمر أشبه بأن تقع في غرام فتاة، فلا تعرف اذا كانت تحبّك أو تحبّ ما تمثّله في مخيلتها. ما أريده هو ان يتم قبولي، وان تكون الطريق سالكة أمامي كي أرتكب المزيد من الأخطاء. الجميع يتوقّع من ممثل مشهور أقصى درجات الكمال. الأخطاء هي المعلمة".


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم