الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مشروع تشويه "كتلة" إهدن فكرة بالغة الغرابة وعلامة اضطراب في الوجدان الثقافي والروحي

أنطوان الدويهي
A+ A-

"الكتلة" (إي التلّة في أصلها الكنعاني) هي قلب إهدن التاريخي، والجغرافي، والمعماري، والروحي، والزمني، معاً. هي التلة القائمة في موقع مميّز من المدينة القديمة. حصن مهيب، مدعّم بأسوار حجرية، دهرية، شاهقة، من الجهات الثلاث، الشمالية المشرفة على جبل مار سركيس، والجنوبية المشرفة على وادي قزحيا، والغربية المطلّة على البحر، من ارتفاع الف وخمسمئة متر. تقوم فوق ساحة الكتلة كنيسة مار جرجس الكبرى، من روائع العمارة الدينية المارونية أواخر القرن التاسع عشر، المزينة بثلاث لوحات ضخمة لداوود القرم، تضم رفات رائد الفكرة اللبنانية يوسف بك كرم. ويرتفع على ساحة الكتلة تمثال برونزي كبير، بالغ المهابة، لكرم على حصانه شاهراً سيفه، ليوسف الحويك، محاطاً بأشجار الأرز، وتمثال برونزي كبير آخر، لا يقلّ عنه جمالاً، للعلامة جبرائيل الصهيوني الإهدني، رائد التفاعل الثقافي بين المشرق والغرب في القرن السابع عشر، إضافة إلى لوحة تذكارية لافتة، على مدخل الكتلة، للمغترب الكبير الشيخ بطرس الشيخا الدويهي. وتضم ساحة الكتلة ايضاً ضريح الشيخ أسعد بولس والمؤرخ جواد بولس، وضريح الشيخ موريس معوض. ويقوم على طرف الكتلة الجنوبي دير أثري بديع محاط بأشجار الأرز، كان مقرّ كرسي مطرانية إهدن، العائدة لأكثر من 500 عام، التي كان آخر من تولاها، المطران أسطفان الدويهي الثالث، عام 1844، قبل أن تلغيها البطريركية المارونية،. وتجدر الإشارة إلى أن أسقف إهدن كان المتقدّم بين الأحبار، وكان يتولّى السدة البطريركية عند وفاة البطريرك.

الأرض المقدّسة

تحتل "الكتلة" مكانة عميقة في وجدان الإهدنيين، جيلاً بعد آخر، وفي وجدان زوّار إهدن ومحبّيها. ويعتبرها الإهدنيون أرضاً مقدّسة جُبِلَ ترابها بدماء شهدائهم ورفات ابطالهم على مرّ الزمان، منذ حملة المماليك، وما سبقها، قبل 700 عام، حتى اليوم. وكان السلطان المملوكي قد جرّد، في العام 1283، حملة عسكرية لإخضاع منطقة قاديشا، واجهها الإهدنيون في جبل سيدة الحصن، خطّ دفاعهم الأوّل، قبل ان يتراجعوا إلى داخل حصن الكتلة، خط دفاعهم الثاني، الذي دكّه المماليك بعد اربعين يوماً من الحصار، وأحرقوه واحرقوا إهدن، وأعملوا السيف في أهلها، في شهر تموز من ذلك العام. فالكتلة- الحصن هي رمز إهدن ورِفعتها، ومقرّ روحها وذاكرتها، مثلما القلعة رمز طرابلس وجبيل وصيدا وصور، وبرج إيفل رمز باريس، ومرتفع السيدة الحارسة رمز مرسيليا، إلى آخره...فلكل مدينة رمزها.

فكرة لا يستوعبها عقل

إلى أن وصلنا إلى هذا الزمن الهاجس بالربح. فنبتت داخل رعية زغرتا- إهدن (مجلس كهنتها) فكرة سوريالية لا يستوعبها عقل: لماذا لا نجوّف الكتلة برمّتها، فنهدم اسوارها الدهرية، ونستبدلها بجدران جديدة من حجر التلبيس، ونقيم داخلها موقفاً كبيراً للسيارات، نستفيد منه في فصل الصيف؟ وعلى الرغم من غرابة هذه الفكرة التي يصعب تصديقها، فكلمة "مستحيل" ليست لبنانية، وخصوصاً ليست مارونية! يقوم هذا المنظور على المعطيات الآتية: الرأي العام في ما يشبه الغيبوبة العميقة، ينصاع بلا تردد لما يقرره اولياء أمره من أهل السياسية، الذين، في غياب الدولة، باتوا مرجعية الناس الوحيدة. يؤدون هذه الخدمة او تلك، لهذا البيت أو ذاك، فيصبح بمجموع افراده، ملك أيديهم وطوع بنانهم، إلى غير رجعة. فالناس، في غياب الدولة، بحاجة إلى شمسية فوق رؤوسهم. فمَن منهم سيغامر بشمسيته من أجل الكتلة أو سواها؟ فالمهم التفاهم بحنكة وروية مع أولياء الأمر. كما ان الرعية تشغّل في المصالح التي تديرها عدداً كبيراً من الأشخاص، فلا بد أن يؤيدوا، مع عائلاتهم، ربّ عملهم في كل أمر. فمَن يبقى؟ يبقى بعض المثاليين الذين لا تزال تهمّهم مسألة الرموز، وقضايا الذاكرة الجماعية والتاريخ والتراث والهوية، والحفاظ على أمكنتها، وتهمّهم مسائل الدفاع عن الطبيعة وجمالية المشهد. فهؤلاء فصيل منقرض، لم يحسن التأقلم مع قاعدة "فيد واستفيد"، ولم يضع شمسية متينة ونهائية فوق رأسه. فما عدد المثاليين، وكم شخصاً يستطيعون تحريكهم على الأرض؟ شيء لا يُذكَر ولا يهمّ. فضلاً عن سهولة الضغط عليهم بمختلف الوسائل، ومحاصرتهم إعلامياً. ثم ان الكتلة هي ملك الوقف، ملك الكنيسة المارونية، تفعل بها الرعية ما تشاء إذا حصلت على موافقة بكركي. وهي موافقة مضمونة. أما الرأي العام اللبناني، فأين هو؟ من سيكترث لمصير كتلة إهدن في بلد غارق حتى أذنيه في التفكّك والفساد والزبالة، بلا حسيب ولا رقيب؟

حفنة من "المثاليين الحالمين"

يبقى وضع المخطط الذي سيُتّبَع، ومن أين تأمين الأموال لتجويف الكتلة وتحويلها مرأباً للسيارات؟ وجد العقل الذي وراء الفكرة الحل: ثمة نقطة "طاحلة" في جدار الكتلة الجنوبي، وهي كذلك منذ عشرات السنين بلا مشكلة. لكن شكلها يخيف، ومن الأفضل معالجتها. على هذا الأساس تم إدخال هيئة الإغاثة على الخط. فوافقت على معالجة هذه النقطة، وهو أمر جيدّ وضروري، وخصّصت الأموال اللازمة لفكّ هذا الجزء من الجدار وإعادة تركيبه. لكن إصلاح النقطة "الطاحلة" من الجدار لم يكن الهدف، بل مجرد ذريعة للانطلاق في مشروع الباركينغ، على الأساس الآتي: بما انه سيتم فكّ هذا الجزء من الجدار، فلماذ لا نفكّه كله من جهاته الثلاث، ونجرف باطن الكتلة ونجوّفه، لنحوّله باركينغ كبيراً للسيارات، ثم نعيد بناء الجدران بحجر التلبيس؟ هكذا، وجدت هيئة الإغاثة نفسها متورّطة في موضوع خارج مهامها وصلاحياتها. وسرعان ما رسم أصحاب فكرة الكاراج الخرائط الهندسية، ووضعوا فيلماً تسويقياً لما سوف تكون عليه الكتلة- الباركينغ، وراحوا يعرضون الأمر بمثابرة وأناة على هذا وذاك من أهل السياسة، وممّن يُعرَفون بالفعاليات. بدأت الرعية برصّ صفها الداخلي في موضوع الباركينغ، الذي، كما يبدو، وافق عليه مجمل الكهنة، باستثناء إثنين، أحدهما حبيس غرفته من زمان، منصرف الى القراءة والتفكير والتأمّل والتأليف، والآخر ممنوعٌ، كما يبدو، من التصريح العلني. الغريب أنه، بعدما نشرت الرعية مشروع الباركينغ على موقعها الرسمي في صيغة بيان صادر عن إدارة أوقاف إهدن- زغرتا، في 19 أيلول الجاري، لم يصدر حتى الان أي رد فعل علني عن أيٍّ من نواب زغرتا- إهدن ووزرائها، الحاليين والسابقين، من مختلف الاتجاهات، باستثناء موقف رافض أعلنه النائب والوزير السابق سليم كرم.

وحدها حفنة من "المثاليين الحالمين" وقفت في وجه مشروع الكتلة- الباركينغ. لم تقف بشدة فحسب، بل قرّر بعض أفرادها عزمهم على المواجهة حتى الاستشهاد. وعلى الرغم من محاولة تطويقهم إعلامياً (محطتان تلفزيونيتان لبنانيتان كبيرتان قررتا بث تحقيق عن مسألة كتلة إهدن، ثم تراجعتا فجأة، وقد أجرت إحداهما تحقيقاً موضوعياً متكاملاً، ثم أحجمت عن بثه)، وعلى الرغم من الضغوط التي تمارس عليهم، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً حاسماً في نقل وجهة نظر المعترضين إلى كل مكان.

وفي خضمّ الاعتراض، ظهرت دراسة علمية وضعها أحد المهندسين، مدعومة بآراء خبراء واختصاصيين، تحذّر من النتائج الوخيمة وغير المحسوبة التي يمكن ان يؤدّي إليها جرف باطن الكتلة، بما فيها احتمال انهيار كنيسة مار جرجس بالكامل، وكل ساحتها، وما عليها، محدثةً كارثة كبرى أشبه بالزلزال. لكن هل يثني ذلك أصحاب الفكرة عن الاستمرار في مشروعهم؟ ليس ذلك بالأمر المؤكّد قط.

زمن الانهيار المعرفي

يستحيل تماماً أن تتكوّن مثل هذه الفكرة، ويستحيل طرحها في أيّ بلد راقٍ، او على شيء من الرقي في العالم. لكن البنية اللبنانية الراهنة تتيح ذاك. ففي ظلّ الاضطراب الثقافي والروحي والأخلاقي الذي يشهده لبنان، بات كل شيء ممكناً. وهذا الانهيار يصيب في الدرجة الأولى أصحاب المسؤوليات والقرار، وينسحب حكماً على أتباعهم من متعلّمين وناس عاديين. لنبقَ على المستوى الثقافي البحت الذي يسهل تحديده وتقصيه. فإذا وضعنا جانباً المعايير الأخرى، على الرغم من أهميتهما البالغة، يستحيل صدور فكرة مسخ وتشويه معلم رمزي وتراثي وروحي كبير مثل كتلة إهدن عن عقل ثقافي، ويستحيل طرحه في بيئة ثقافية الوجهة والقرار. لا يقتصر هذا الأمر على بيئة إهدن – زغرتا، بل على كل لبنان. فللأسف الشديد، ليس هناك مثقف حقيقي كبير واحد في الطبقة السياسية والدينية اللبنانية، صاحبة المناصب والمسؤوليات والقرارات، على كل المستويات، ولا يمكن أن يكون. وليس هناك روحانيّ كبير واحد أيضاً. وإذا كان من مثقف حقيقي كبير واحد، أو روحاني كبير واحد، فليقولوا من هما. علماً بأن هذه الطبقة نفسها، في أي بلد من بلدان اوروبا على سبيل المثل، تضمّ العشرات من المثقفين الحقيقيين، وهي مشرّعة دوماً أمامهم.


الانحدار الماروني

وعلى الرغم من أن الموارنة انفتحوا على الغرب وعلى الحداثة والتعليم قبل كل مجتمعات المشرق بأكثر من مئتي عام، فالطبقة السياسية والدينية عندهم، المتولية المناصب والصلاحيات والقرارات، لا تختلف في شيء عن سواها. لقد بدأ تفاعل أهل الشرق مع الغرب الأوروبي ومع الحداثة، مع حملة بونابرت على مصر وقيام عهد محمد علي باشا في بلاد النيل مطلع القرن التاسع عشر. باستثناء الموارنة، الذين بدأوا يرسلون نخبهم إلى "معهد روما الماروني" منذ آخر القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر (حين كانت فلورنسا عاصمة النهضة الأوروبية والعالم)، والكثير منهم من إهدن ومحيطها، فتخرج فيهم المئات من أهل العلم الحديث، الرفيع المستوى، المتعدد اللغات، المتشعّب المعارف، في زمن كان المشرق غارقاً في ما عُرف بـ"عصر الإنحطاط". وكان لأولئك العلماء الدور الرائد طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر في حركة الاستشراق السرياني والعربي في اوروبا، من جهة، وفي الحركة التعليمية الحديثة في جبل لبنان وحلب وقبرص، من جهة أخرى، حيث تولوا وحدهم إنشاء المدارس، ولا سيما مدرسة سيدة حوقا، ومدرسة مار يوسف زغرتا، ومدرسة عينطورة، ومدرسة حلب المارونية، ومدرسة عين ورقة. وقد أسّس متخرّجو هذه المدارس للنهضة المشرقية في القرن التاسع عشر، قبل زمن من وصول الجامعتين الأميركية واليسوعية إلى بيروت. فهل يُعقل ان تصدر فكرة مسخ كتلة إهدن وتشويهها عن حاملي هذا التراث؟ أجل. فمن يراقب الطبقة السياسية والدينية المارونية الراهنة، يعلم بوضوح ان هذا التراث قد تبددّ، ولم يعد له كبير أثر في النفوس. والرجالات القلائل الذين بقي هذا التراث حيّاً في نفوسهم، مثل الأب ميشال الحايك، والأب يواكيم مبارك، والمطران هكتور- اسطفان الدويهي، تمّ إبعادهم عن اي سلطة او قرار، وجرى نفيهم. ويكفي مؤشّر واحد من مؤشرات كثيرة، لا مجال الآن لتبيانها، هو مؤشر التعامل مع العمارة الدينية، لنلمس إلى أي درك انحدرت رؤية الموارنة. كنائس تبنى بعشوائية هندسية لا توصف، وفي غربة عن الذات والهوية الروحية، بينما هناك قواعد صارمة للعمارة الدينية في التراث الماروني، لم يعد احد يعرف بها، ولم يعد احد يستلهمها، في جميع المدن والبلدات والقرى في لبنان. وكنائس أثرية تشوّه، أو يشوّه محيطها المباشر، فتفقد حرمتها ومعناها. وبما اننا الآن في إهدن، فلنشر باقتضاب إلى ما حلّ بجبل سيدة الحصن (وما كاد يحلّ، وما يمكن ان يحلّ)، وإلى تحوير مسار ما يُعرف بأوتوستراد إهدن الخارجي، ممّا أدّى إلى سلخ دير مار يعقوب الأحباش ودير مارت مورا الأثريين عن أرضهما على حافة وادي قزحيا، وما جرى بعد ذلك من "ترميم" تاعس لدير مارت مورا، هُدِمتْ معه قبته الأثرية لتحلّ محلها قبة من الباطون المسلّح وحجر التلبيس، علماً بأن هذا الدير هو مهد الرهبانيات المارونية. وما من ناظر ولا سميع.


مفاهيم العالم الراقي

لو كان ثمة مثقفون حقيقيون، أو روحانيون كبار، في الجهاز السياسي والديني، المحلي واللبناني، لكانوا عرفوا بالأمور الآتية، التي أضحت من زمان من المفاهيم والمسلّمات التي لا يجهلها أحد في البلدان الراقية، او التي على شيء من الرقي:

1- إن الأمكنة الرمزية، أمكنة الذاكرة والتراث والهوية التاريخية، لا تُقدّر بثمن مادي، ولا يحق لأحد التلاعب بها او بمحيطها بأي شكل. وحين يخرب أي شيء فيها، وهو أمر طبيعي مع مرور الزمن والكوارث الطبيعية والحروب، يعاد ترميمه وفقاً لقواعد فنية وتقنية صارمة، لإعادته تماماً إلى ما كان عليه، بلا زيادة ولانقصان.

2- إن مفهوم احترام زمنية الأبنية والأشياء هو في جوهر الفكر المعاصر. إن اهمية الإنجازات المعمارية والفنية البشرية، لا تقاس بجمالها وطرازها فقط، بل بزمنيتها، أي باحتوائها على الزمن المتوالي فيها، وبالمشاعر والأفكار والرغبات والرؤى التي تركها وراكمها فيها، كل الذين بنوها حجراً حجرأ، وكل الذين استشهدوا أو عاشوا وفرحوا وتألموا فيها، وكل الذين تفاعلوا معها، وولجتْ عميقا وجدانهم على مرّ الزمان. إن حجراً واحداً من جدران الكتلة الدهرية، التي "دقّها" صاقلو الحجارة الإهدنيون، لهو أكثر اهميّة بما لا يُقاس من كل ما يُبنَى من جدران حجر التلبيس، العديم الزمنية والميّت الروح.

3- إن مقولة "الكنيسة حرّة بأملاكها تفعل بها ما تشاء"، إنما تعود الى كنيسة القرون الوسطى وكنيسة ما قبل الحداثة، وليس إلى كنيسة القرن الحادي والعشرين. فهذا البناء أو ذاك، وهذه الأرض أو تلك، لم يرثها الكاهن أو الأسقف عن أبيه. هي موقوفة ومرصودة للحفاظ على تاريخ الشعب وهويته، ولتحقيق مصالحه الكبرى، ومن حق الشعب البديهي أن يناقش ويشارك في تقرير مصيرها.

4- إذا كان صحيحاً ما يُقال بأن مشروع باركينغ الكتلة لا معنى له في حدّ ذاته، بل هو مقدمة لتوسيع الطريق المحاذية للكتلة شمالاً نحو الميدان، على أمل شراء ما سيبقى من بيوت قديمة بعد الإستملاك، لهدمها وتنفيذ مشروع مكانها لتوسيع رقعة مطاعم الوجبات السريعة والبارات التي أخذت تغزو محلّة الميدان، فيكون باركينغ الكتلة كاراجاً لها، فمثل هذا الامر لا يجوز إطلاقاً. إن مكان مرائب السيارات ومشاريع الفاست فود وسواها لا يكون في قلب المدينة القديمة، بل خارجها وبعيداً عنها. إن وسط إهدن التاريخي، من حي الكتلة، إلى الميدان، إلى مار بطرس ومبنى الكبرى، هو بحاجة ماسّة للحفاظ على هويته التاريخية والمعمارية الخاصة، وعلى مقاهيه العريقة، وأشجاره الشامخة، وزواريبه وأدراجه ومحلاته ودكاكينه وحرفياته، وليس تحويله ميداناً لشركات الأكل السريع والبارات الرخيصة، وتخريب شخصيته وذاكرته، سعياً وراء أرباح زائلة.


عصر المشاة

5- كيف يجهل المسؤولون الدينيون والسياسيون أن حركة إبعاد السيارات عن قلب المدن والبلدات التاريخية، هي الحركة السائدة منذ سنين طويلة، والمتصاعدة أكثر فأكثر، في جميع انحاء العالم المتقدّم؟ وكيف لا يدرون أن إقامة المناطق الخالية تماماً من السيارات، والمخصصة كلياً للمشاة هي الغاية المرجوّة في كل مدن اوروبا، وهي تتسع كل عام أكثر؟ ألا يسافرون إلى مدن العالم، ألا ينظرون؟ فحركة طرد السيارات من المدن القديمة وتخصيص مساحات متزايدة للمشاة فيها، هي الاتجاه البارز بقوة في أمستردام وبروكسيل ولندن وكوبنهاغن وبرلين وباريس واثينا ومدريد وهامبورغ وكوناس وأوسلو، على سبيل المثل لا الحصر. فقد أقامت بروكسيل، مثلاً، منطقة في وسطها التاريخي خالية من السيارات ومخصصة للمشاة، مساحتها 50 هكتاراً، هي على الأرجح الأوسع في اوروبا، تنافسها فيها مدينة كوناس البولونية. وتطمح أمستردام وأوسلو الى تحرير وسطهما التاريخي نهائياً من السيارات في السنوات المقبلة. ولا يخفف ذلك من زخم الحركة الاقتصادية والتجارية والسياحية في أحياء المشاة، كما يتخيّل البعض، بل يقوّيها، ويرفع من نوعية الحياة فيها، ويرفع أسعار العقارات وعقود المصالح المختلفة. فلم يعد أحد يريد رؤية السيارات والآليات في المدن القديمة، ولم يعد أحد يطيقها.

وإلى الذين يزورون باريس، ألم تذهبوا يوماً الى حي الهال في قلب باريس التاريخية على الضفة اليمنى؟ ألم تتذوقوا لذة السير والعيش في هذا الحي القديم، الكبير، المخصص كلياً للمشاة، الممتد من شارع سان أونوريه شمالاً إلى شارع أتيان مارسيل جنوباً، ومن ما وراء بولفار سيباستوبول شرقاً إلى شارع اللوفر غرباً؟ ألم تتمشّوا في شارع مونتورغوي الجميل، وتزوروا كنيسة سان أوستاش، إحدى الدرر المعمارية التي يلتقي فيها الفن القوطي بفن النهضة الأوروبية، وتشاهدوا "بركة الأبرياء" البديعة بحورياتها الثلاث وساحتها، وتدخلوا "مركز جورج بومبيدو للفن الحديث"، الأكثر جذباً لسيّاح العالم بعد برج ايفل، وتتجولوا في مجمّع الهال، المبني طبقات عدة تحت الأرض، ليبقى سطحه حديقة عامة فسيحة، والذي يضم أكبر مكتبة "فناك" في باريس، وأرقى المحلات والمقاهي والمطاعم وقاعات السينما وأحواض السباحة؟ وكل ذلك، من دون ان تصادفوا سيارة واحدة، او باصاً واحداً.

ألا يستحق وسط إهدن التاريخي، حيّ الكتلة والميدان والكبرى، أن يُخَفّف عنه ضغط السيارات وسائر الآليات، وأن يصار، لهذه الغاية، إلى بناء باركينغ كبير تحت الأرض، عند مدخل المدينة الغربي، كما كان مقرّراً؟ ألا تستحق إهدن، عروس المصايف، ذلك، بدلاً من جرف باطن كتلتها، مقرّ روحها، ومسخ هذه الروح وتشويهها؟

* كاتب ومفكّر، دكتور في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية





حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم