الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

البندقية ٧٥ – لازلو نمش "غروب" من خلف الظلمات

المصدر: "النهار"
البندقية ٧٥ – لازلو نمش "غروب" من خلف الظلمات
البندقية ٧٥ – لازلو نمش "غروب" من خلف الظلمات
A+ A-

يلقي بنا "غروب" للمخرج المجري لازلو نمش في دوّامة. فعلياً لا مجازاً. تنطلق الدوّامة مع افتتاحية الفيلم ولن تهدأ حتى الختام، أي حتى اللحظة التي يدرك فيها الجميع ان لا وجود لأمل بالنجاة من هذه الدوّامة، فتزداد تهديداً وخنقاً. يقارب نمش السينما كفنّ يدوس آخر قطرة إحساس عالقة في أعماق الكائن ولا يدرك وجودها.  

من الطبيعي ان تبتلع الدوّامة في تدفقها كلّ شيء، وهي فعلاً ستبتلع كلّ شيء. كلّ شيء وليس أقل من ذلك. الأخلاق والقيم والمبادئ. لكن، تبقى التجربة وروعتها وعظمتها، وهذا الحزن الخانق الذي يجعلنا نشعر بأن ما عشناه لن يتكرر.

بعد تحفته "ابن شاوول" (جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كانّ و"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي)، لم يحقق نمش، ابن الثلاثة والأربعين، أقل من رائعة سينمائية من شأنها ان تثير سجالاً جمالياً في الأشهر المقبلة على أرفع المستويات.

"غروب" عمل تيتاني باهر، مستفز، صارخ بجماله، يأتينا من الحديقة الخلفية للسينما لا من واجهتها، ومن المكان الأكثر غموضاً في ماضيها الذي لا يزال يشغل بال الكبار، ونمش واحد منهم. يحملنا إلى المجهول الذي يغذّي المخيلة. هذا المجهول الذي يقع في مخالبه كلّ من أراد يوماً الغوص في الطبيعة الآدمية المعقدة. لا شرح، لا تبرير: فقط المُشاهد والفيلم. نوع العلاقة الذي لا يحلم به السينيفيلي الا مرات نادرة في حياته.

نمش واعٍ لغته، اسلوبه، والنحو الذي يؤفلم به النزول إلى الجحيم. يعي كذلك عشقه للوجوه الضخمة على الشاشة واللقطات الطويلة، للكائن الذي يتخبط، للحظة السينمائية التي تعانق كلّ اللحظات، للبحث الذي لا ينتهي لأنه بحثٌ عن ذات. سيُقال انه يكرر نفسه، ويدور حول هواجسه، فيعيد التجربة الناجحة لـ"ابن شاوول" من دون مخاطرة. صحيح.هو يكرر نفسه بقدر ما كرر كوروساوا وبرغمان وتاركوفسكي أنفسهم. هو يدور حول هواجسه بقدر ما عاود معلّموالتشكيل استخدام ألوانهم وموتيفاتهم المفضّلة.

"غروب" أشبه بالماتريوشكا. دائماً هناك أشياء داخل الشيء. فالفيلم عودة إلى نحو قرن إلى الخلف (بودابست عام ١٩١٣)، امعاناً في أجواء آخر أيام الأمبرطورية النمسوية المجرية. عالم جديد لم يلد بعد، والقديم يموت ببطء، و"هذا يولد مسخاً"، بحسب تعبير منسوب إلى أنطونيو غرامشي.

وسط هذا كله، نتعرف إلى إيريس (جولي جاكاب) التي تصل إلى بودابست، طامحةً إلى العمل في مجال عرض القبّعات في متجر يرتاده كبار القوم. تفصيل صغير: المتجر أسسه والداها اللذان قضيا في حريق نشب في المتجر عندما كانت إيريس طفلة. فاشتراه رجل أعمال أنيق يدعى أوسكار بريل (فلاد إيفانوف). بعد الحريق، وُضعت إيريس في دار للأيتام في فيينا، وها انها تعود للبحث عن شقيقها الذي يُتداول في شأنه الكثير من الأحاديث والروايات والأساطير المتضاربة. الأرجح انه وقع في شبكات الجريمة المنظمة. إيريس تجد نفسها على عتبة هذا العالم الداكن، الزائف، الخطر، القبيح، وعليها ان تتصرف وتعتمد على نفسها للخروج إلى مكان أكثر أماناً، فلا أحد محلّ ثقة. مرة أخرى بعد "ابن شاوول"، الشخصية الرئيسية تجد نفسها ازاء عملية بحث. سابقاً الابن، الآن الشقيق، وهو في الحالتين بحث مزمن عن الذات، وككل بحث عن الذات، وسط هذا العالم الغريب، هو بلا طائل.


يترك نمش نصّه مزنّراً بفجوات ومساحات بيضاء لا يمكن ترميمها بسهولة، ويدعنا في حيرة مع مجموعة تساؤلات لن نجد أي رد عليها. ما نراه يخبئ فظائع كثيرة وأسى كبيراً.لكن ما لا نراه لا ينفي وجوده. الفيلم لمّاح في هذا الصدد. شيء أكيد هو ان تلك السنوات مقدمة لما سيأتي في أواخر الثلاثينات: عنف واضطهاد واقتتال. أوروبا لا تفعل الا إخفاءجزء من وجهها. وما القبّعات في المتجر الا وسيلة لحجب هذا الوجه.


قد نتوقع كلّ أنواع الغرائبيات والشخصيات المزخرفة في الفيلم، ولكن يصعب جداً ان نتوقع النحو الذي تتعقب به الكاميرا إيريس، مصوّراً اياها حيناً من الأمام، وحيناً من الخلف. هذه الشاهدة على كابوس تعيشه في وضح النهار وهي بكامل وعيها. مرة أخرى، الصورة (٣٥ ملم) بألوانها الباهتة وهويتها السينمائية الخالصة، تمدّ الفيلم بعدم الاطمئنان، كأننا في جلسة مغناطيسية، وهذا الشعور ندين به إلى مدير التصوير ماتياس ايرديلي، الذي كان أيضاً خلف "ابن شاوول".


جولي جاكاب تحمل في سرّها شيئاً من ناستازيا كينسكي وقت صوّرت "تس" مع بولانسكي. وجهها كلاسيكي، تمثّل بأقل من امكاناتها، حضورها لا يختلف عن غيزا روريغ في "ابن شاوول"، بمعنى انها لا تتفاعل مع ما تراه، وهذا اسلوب نمش في ادارة ممثليه على ما يبدو.


بعد انطلاقة قوية جداً، لا يخيّب نمش الظن. يشرق علينا من ظلمات التاريخ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم